
حلول مقترحة: تشديد الرقابة على تداول العملة الأجنبية
ليبيا على مفترق طرق: الاحتياطي النقدي بين تراجع الأرقام وسوء الإدارة
تراجع الاحتياطي النقدي الليبي من 139 مليار دولار إلى 70 مليار دولار.
أسباب التراجع: الإنفاق غير المدروس وانخفاض أسعار النفط.
السوق السوداء تبتلع العملات الأجنبية في ليبيا.
في خضم الأزمات المتلاحقة التي تعصف بليبيا منذ أكثر من عقد، يبرز ملف الاحتياطي النقدي كواحد من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد الليبي. فمنذ أن بلغ الاحتياطي النقدي ذروته في أكتوبر 2010، حيث تجاوز 139 مليار دولار، شهد هذا الرقم تراجعاً حاداً وصل إلى نحو 70 مليار دولار بحسب تصريحات العضو السابق في مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، أمراجع غيث. هذا التراجع ليس مجرد رقم يجري تداوله في التقارير الاقتصادية، بل هو انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بسوء إدارة الموارد وغياب الرؤية الاستراتيجية.
البداية: من أين أتى التراجع؟
كانت ليبيا قبل عام 2011 تتمتع باحتياطي نقدي ضخم، يعكس ثروة نفطية هائلة واقتصاداً يعتمد بشكل شبه كلي على عائدات النفط والغاز. لكن الأحداث التي أعقبت أحداث 2011 كانت بمثابة نقطة تحول في مسار الاقتصاد الليبي. فبعد أن بلغ الاحتياطي النقدي ذروته، بدأ في التراجع تدريجياً ليصل إلى 112 مليار دولار بعد الثورة، ثم استمر في الانخفاض حتى وصل إلى 70 مليار دولار.
ويرجع الخبير المصرفي أمراجع غيث هذا التراجع إلى عدة عوامل، أهمها فتح الباب أمام الإنفاق غير المدروس وإلغاء القيود الصارمة التي كانت تفرضها الحكومة السابقة على تداول العملات الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، شهدت الفترة بين 2014 و2016 انخفاضاً حاداً في أسعار النفط العالمية، مما أثر سلباً على عائدات ليبيا النفطية. كما أن الإغلاقات المتكررة للحقول النفطية بسبب الاضطرابات الأمنية ساهمت في تفاقم الأزمة.
السوق السوداء: وحش يلتهم العملات الأجنبية
وإذا كان تراجع الاحتياطي النقدي يعكس أزمة اقتصادية، فإن السوق السوداء للعملات الأجنبية في ليبيا تعكس أزمة إدارية وسياسية. فبحسب غيث، فإن قرار المصرف المركزي برفع القيود على توفير الدولار لمن يطلبه كان يهدف إلى القضاء على السوق الموازية، لكن النتيجة كانت عكسية تماماً. فالسوق السوداء في ليبيا ليست مجرد ظاهرة اقتصادية عابرة، بل هي شبكة متشعبة تضم مضاربين ومهربين يستغلون الفراغ الإداري لتحقيق أرباح طائلة.
وقد أشار غيث إلى أن أغلب من يطلبون الدولار في السوق السوداء ليسوا تجاراً يستوردون سلعاً، بل هم مضاربون يهدفون إلى تحقيق أرباح سريعة من خلال بيع العملات الأجنبية بأسعار أعلى. وهذا ما يجعل السوق السوداء قادرة على ابتلاع أي كمية معروضة من العملات الأجنبية، مما يفاقم الضغط على الاحتياطي النقدي.
هل الاحتياطي النقدي في خطر؟
رغم تراجع الاحتياطي النقدي، يقلل الخبير المصرفي من خطورة هذا التراجع، مؤكداً أن الاحتياطي النقدي موجود أصلاً لمواجهة الأزمات. فليبيا، بحسب غيث، دولة صغيرة يقطنها 6 ملايين نسمة، ولديها دخل سنوي ثابت من بيع النفط والغاز، مما يعني أنها قادرة على تعويض التراجع في الاحتياطي النقدي مع تحسن الأوضاع الاقتصادية والأمنية.
لكن المشكلة الحقيقية، بحسب غيث، تكمن في سوء إدارة الموارد. فليبيا لديها ثروة نفطية هائلة، لكنها تفتقر إلى الإدارة الفعالة التي تضمن استغلال هذه الثروة بشكل أمثل. وهذا ما يجعل الاقتصاد الليبي عرضة للتقلبات الخارجية، سواء في أسعار النفط أو في الأوضاع الأمنية.
الحلول المقترحة: تشديد الرقابة وإعادة النظر في السياسات
في مواجهة هذه الأزمة، يقترح الخبير المصرفي عدة حلول، أهمها تشديد الرقابة على تداول العملات الأجنبية. فبحسب غيث، لا بد من إعادة فرض القيود على توفير الدولار، مع التركيز على توجيه العملات الأجنبية نحو الاستيراد الفعلي للسلع والخدمات بدلاً من المضاربات.
كما يؤكد غيث على ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة الليبية، مع التركيز على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل. فليبيا لديها إمكانيات هائلة في قطاعات أخرى مثل الزراعة والسياحة، لكنها تحتاج إلى استثمارات حقيقية وسياسات فعالة لتنمية هذه القطاعات.
ليبيا بين الأمل والتحدي
ليبيا اليوم تقف على مفترق طرق. فمن ناحية، لديها ثروة نفطية هائلة واحتياطي نقدي لا يزال قادراً على مواجهة الأزمات. لكن من ناحية أخرى، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بسوء الإدارة والفساد والاضطرابات الأمنية. وفي ظل هذه الظروف، يبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن ليبيا من تجاوز هذه الأزمة واستعادة عافيتها الاقتصادية؟ الإجابة على هذا السؤال ستحددها الإرادة السياسية والقدرة على إصلاح النظام الاقتصادي والإداري في البلاد.