ليبيا

الأمم المتحدة في ليبيا والفشل منذ البداية

الباحث: إدريس احميد

منذ عام 2011، وتحديدًا بعد صدور القرارين 1970 و1973 عن مجلس الأمن الدولي، واللذين مهّدا الطريق لتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بذريعة “حماية المدنيين”، دخلت ليبيا نفقًا من الصراعات والانقسامات. لم يكن التدخل مجرد حماية، بل كان بداية لتفكيك الدولة الليبية وسقوط مؤسساتها. ومنذ ذلك الحين، تحولت ليبيا إلى ساحة مفتوحة لتدخلات إقليمية ودولية، وتغيب فيها الرؤية الوطنية الجامعة.

الأمم المتحدة: من شرعنة التدخل إلى إدارة الفوضى
كان تدخل الأمم المتحدة في ليبيا مُعدًا له بعناية وبتوافق بين قوى كبرى كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، وصدر بقرار أممي حظي بتأييد 10 دول وامتناع 5 عن التصويت. ومنذ ذلك الوقت، بدأت مهام البعثة الأممية التي تعاقب على إدارتها عشرة مبعوثين أمميين، كلٌ يحمل وعودًا جديدة، وينتهي إلى فشل مكرر.

استخدمت الأمم المتحدة أدواتها القانونية، وخاصة الفصل السابع من ميثاقها، لتفرض عقوبات وتدخلات، لكنها ظلت حبيسة مصالح القوى الكبرى، ولم تتمكن من تقديم حلول فعلية أو فرض قراراتها على الأرض. بل تحوّلت إلى طرف يُدير الأزمة بدلاً من حلها، تُجمل الفشل في تقارير، وتعيد إنتاج نفس الأسماء والمبادرات العقيمة.

اتفاقات بلا تنفيذ ومبعوثون بلا نتائج
من اتفاق الصخيرات عام 2015، إلى اتفاق جنيف عام 2021، وحتى خارطة الطريق ومقترحات لجنة 6+6، لم ينجح أي مسار أممي في خلق سلطة موحدة أو مؤسسات مستقرة. استمرت الأمم المتحدة في التعامل مع أطراف سياسية فقدت شرعيتها، وتغاضت عن سلوك المعرقلين، بل أضفت عليهم شرعية ضمنية.

أخطر ما في هذه السياسات أنها لم تعالج جوهر الأزمة الليبية، والمتمثل في غياب مشروع وطني حقيقي، وانتشار السلاح، وغياب الثقة، بل أدارت الوضع كما هو، ومنحت الفرصة للمزيد من التدخلات الخارجية.

لجنة العشرين: محاولة متأخرة وفاقدة للثقة
في عام 2025، أطلقت المبعوثة الأممية هانا تيتيه لجنة العشرين الاستشارية كمحاولة للخروج من المأزق السياسي عبر توافق دستوري. لكنها لم تُحدث الفرق، بل جوبهت برفض واسع من أطراف سياسية ومجتمعية اعتبرتها استمرارًا لنهج التدوير، وانعكاسًا لغياب الإرادة الحقيقية للتغيير.

رافقت هذه المرحلة مظاهرات في طرابلس ومناطق أخرى، طالبت بإنهاء عبث البعثة الأممية أو على الأقل تجميد عملها، بعد أن أصبحت جزءًا من معادلة الانقسام وليس حلاً لها.

السلاح المنفلت ومصادرة القرار السياسي
ما تزال الميليشيات تهيمن على المشهد الأمني والسياسي، مستخدمة السلاح كوسيلة ضغط، ومعرقلة لأي عملية انتخابية أو استقرار مؤسسي. ورغم تحقيق لجنة 5+5 العسكرية المشتركة بعض النتائج، إلا أن غياب الدعم الأممي لتفعيل مخرجاتها وتوحيد المؤسسة الأمنية جعل هذه الجهود شكلية أكثر من كونها فاعلة.

إنّ فوضى السلاح تمثل التحدي الأكبر لبناء الدولة، حيث لا يمكن الحديث عن ديمقراطية في ظل غياب الأمن واستمرار احتكار العنف خارج إطار الشرعية.

المسار الانتخابي: ما بين الغياب والعبث
رغم الدعوات المتكررة لإجراء الانتخابات، ظلت هذه الخطوة رهينة لمناورات الأطراف المتصارعة. الانتخابات، إن جرت، تكون أداة لتثبيت النفوذ وليس لبناء دولة مدنية. فالولاءات القبلية والمناطقية والجهوية ما تزال تحكم المزاج الانتخابي، في ظل غياب وعي سياسي ناضج لدى شرائح واسعة.

لكن في المقابل، بدأت تبرز بوادر صحوة سياسية، لا سيما في العاصمة طرابلس، حيث ارتفعت أصوات تطالب بسلطة قوية، ودستور عادل، وقانون يحفظ حقوق الجميع، ما قد يشكل نقطة تحول قادمة.

الإعلام: سلاح مزدوج بين الفتنة والوعي
لعب الإعلام دورًا سلبيًا في مراحل عديدة، لا سيما الفضائيات الممولة من الخارج، التي غذت الكراهية والانقسام، وروجت للتضليل. كما استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الفتنة، لكنها في الوقت ذاته أصبحت منصة للوعي الجديد، وللتعبير عن المطالب الشعبية بالتغيير والمصالحة.

المؤسسة العسكرية: ركيزة الاستقرار الممكنة
في ظل هذا التشتت، تبقى المؤسسة العسكرية في الشرق الليبي هي الطرف الأكثر تنظيمًا وانضباطًا، وقد نالت اعترافًا محليًا ودوليًا بدورها، لا سيما في فرض الأمن ومكافحة الإرهاب. ورغم محاولات تهميشها في بعض المسارات السياسية، تبقى هي الركيزة الأهم لأي حل وطني شامل.

تراجع الأمم المتحدة عالمياً… وليبيا ليست استثناء
منذ نشأتها، لم تنجح الأمم المتحدة في حل الأزمات الدولية إلا نادرًا، وغالبًا ما تتحرك وفق مصالح الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. قراراتها تُتخذ تحت مظلة مجلس الأمن، ولكنها تظل رهينة لخلافات الأعضاء الكبار، ما يجعلها عاجزة عن فرض التنفيذ أو رفع العقوبات عند الضرورة.

وفي ليبيا، أصبحت البعثة الأممية تتحرك وفق ما تسمح به هذه التوازنات، ولم تعد شريكًا نزيهًا لليبيين في بناء مستقبلهم.

تفاؤل حذر وشبح الانقسام
رغم كل ما سبق، يبقى هناك بصيص أمل ناتج عن وعي شعبي بدأ يتشكل، يُدرك أن لا خلاص إلا بإرادة وطنية حقيقية. فمع ضعف الأطراف المسيطرة وتآكل شرعيتها، بدأ المواطن الليبي يستشعر أن الاستمرار في هذا الواقع هو انتحار جماعي سياسي واقتصادي.

لكن في المقابل، يبقى شبح الانقسام والتشظي قائمًا، وقد يتحول إلى واقع أكثر فوضوية إذا استمرت المؤسسات الأممية في نهجها الحالي، وإذا ظل الداخل الليبي أسير الانتهازية والعبث السياسي.

خاتمة: من الحماية إلى الإعاقة
إذا كانت الأمم المتحدة قد تدخلت في ليبيا سنة 2011 تحت شعار “حماية المدنيين”، فإن الواقع يُظهر اليوم أن الليبيين باتوا بحاجة إلى حماية من الفوضى، والفساد، والفشل المؤسسي.

لقد آن الأوان لوقفة مراجعة شاملة، يعترف فيها الجميع، وخاصة البعثة الأممية، بعدم النجاح.
اما تصحيح وضعها من إدارة الأزمة إلى المساعدة ، وهذا يتطلب تغيير في آلية عملها في ظل تحكم الدول الكبري في عملها ، وفق مصالحها في ظل المتغيرات الدولية وتضارب المصالح .
ولا بد من فسح المجال أمام إرادة وطنية حقيقية، تنطلق من الداخل، مدعومة بإجماع شعبي، لبناء دولة مدنية، مستقرة، وذات سيادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى