دبلوماسية الإنجاز: الحكومة الليبية في بيلاروسيا ترسم خارطة شراكة جديدة
توقيع اتفاقيات حيوية في الصحة والصناعة والتعليم.. والدفاع المدني الليبي في طور التوأمة مع جامعة الطوارئ البيلاروسية

ليبيا 24:
بين أروقة التاريخ وجغرافيا المصالح، سطرت الدبلوماسية الليبية مشهدًا جديدًا في العاصمة البيلاروسية مينسك، حيث حلّ رئيس الحكومة الليبية الدكتور أسامة حماد، ضيفًا رسميًا على دولة تتقاطع معها ليبيا في الرغبة نحو النمو المشترك والتكامل التنموي.
الزيارة لم تكن بروتوكولية فحسب، بل كانت خطوة استراتيجية استثمرت في المستقبل، ونسجت شراكات واقعية في وقت تتعطّش فيه ليبيا إلى أذرع دعم فنية واقتصادية تثبتُ الأقدام على طريق النهوض الوطني.
منذ لحظة وصوله إلى أرض بيلاروسيا، بدا جليًا أن أجندة الزيارة لم تكن تقليدية؛ الوفد الليبي الذي رافق رئيس الحكومة ضمّ وجوهًا تحمل مفاتيح الاقتصاد والسيادة والإنقاذ والاتصال، مما يعكس وعي الدولة الليبية بأن التعاون لا يُبنى في الفراغ، بل بالتحرك المنسق متعدد الأبعاد
فمنذ أن وطئت أقدام الوفد الليبي الرسمي أرض العاصمة البيلاروسية مينسك، كانت المؤشرات واضحة بأن هذه الزيارة لا تندرج تحت بند المجاملة الدبلوماسية أو الزيارات البروتوكولية العابرة.
فقد ترأس رئيس الحكومة الليبية، الدكتور أسامة حماد، وفدًا رفيع المستوى يضم رموزًا محورية من مفاصل الدولة، جاءوا ومعهم أجندة مثقلة بالتطلعات، ومحددة بالملفات، ومتطلعة لشراكات ناضجة في عالم سياسي واقتصادي لا يحتمل التردد أو المجاملة.
الزيارة التي استمرت أربعة أيام، مثلت أول تحرك خارجي متكامل من نوعه منذ توقيع عدد من التفاهمات بين البلدين في مارس الماضي بمدينة بنغازي، لكنها لم تكن مجرد امتدادٍ لتفاهمات مكتوبة، بل تحولت على الأرض إلى إجراءات ملموسة، واجتماعات عملية، وتوقيعات جديدة لملفات استراتيجية.
بداية التحرك
في مطار مينسك، كان الاستقبال البيلاروسي على أعلى مستوى، حضره رئيس الوزراء فيكتور كارانكيفيتش، وعدد من الوزراء وكبار القادة الأمنيين، ما عكس مستوى التقدير لما تمثله ليبيا الجديدة بقيادة حكومة الدكتور حماد، من أهمية على خارطة العلاقات الخارجية لبيلاروسيا، ومباشرة دخلت الوفود في أعمالها، دون إضاعة وقت، وكأن الزمن في حسابات الطرفين لا يُحتمل فيه الترف.
في اليوم الأول، عُقد الاجتماع الموسّع بين رئيسي الحكومتين، بحضور الوزراء من الطرفين، وكان محوره تفعيل التفاهمات السابقة، وفتح آفاق تعاون إضافية، تضمنت الصناعة، الزراعة، التعليم التقني، الصحة، الاستكشاف الجيولوجي، إدارة الكوارث، الأدوية، والتعدين.
لم تكن تلك عناوين فضفاضة، بل ملفات محددة بمدى زمني، وبتصورات تفصيلية تخرج من الطابع العمومي إلى أرض الواقع.



الصناعة والزراعة.. بناء من القاعدة
الجانب العملي من الزيارة بدأ بزيارة ميدانية إلى مصنع مينسك للجرارات والمعدات الزراعية، إحدى قلاع الصناعة البيلاروسية، لم تكن الزيارة لالتقاط الصور، بل للوقوف على خطوط الإنتاج، وملاحظة الإمكانيات التقنية، والتباحث في إمكانية نقل التجربة إلى ليبيا.



الرؤية الليبية التي عبّر عنها رئيس الحكومة، كانت واضحة: “نحن نريد استيراد المعرفة، لا البضائع فقط”، وأكد أن ليبيا تمتلك سوقًا متعطشة للمنتجات الصناعية، لا سيما ما يخدم القطاع الزراعي، وتطوير الأمن الغذائي، وهو ما يتقاطع مباشرة مع رؤية الدولة الليبية لتنمية مستدامة لا تعتمد فقط على الموارد الطبيعية، بل على تطوير أدوات الإنتاج.
من جانبه، أبدى وزير الصناعة البيلاروسي استعداد بلاده للدخول في مشاريع مشتركة، تشمل الإنتاج المحلي داخل ليبيا، ونقل المعرفة التقنية، مع تأكيد على جودة المنتجات التي تلبي احتياجات البيئة الليبية، ما يُعد تحولاً نوعيًا في فلسفة الاستيراد التقليدية التي أثقلت الاقتصاد الليبي لعقود.
مواجهة الكوارث
وفي نقلة نوعية ضمن ملفات التعاون، زار رئيس الحكومة الليبية “جامعة الحماية المدنية”، المتخصصة في إعداد الكوادر الفنية للتعامل مع الكوارث والطوارئ.
هذه الزيارة حملت دلالات استراتيجية، تعكس وعي الحكومة الليبية بأن بناء الدولة لا يقتصر على البنية التحتية والاقتصاد، بل يمتد إلى بناء الإنسان، والقدرات الوطنية.
ما رآه الوفد الليبي داخل الجامعة من تقنيات محاكاة متقدمة، وبرامج تدريب متخصصة في حرائق النفط، والإشعاع، والإنقاذ الجوي والبري، لم يكن تفصيلًا جانبيًا، بل أصبح بعد الزيارة أحد المحاور التي تم الاتفاق على نقلها إلى ليبيا، من خلال إنشاء معهد تدريبي توأمي، ببرامج مشتركة، ومدربين بيلاروس.
رئيس الحكومة شدد على أهمية جاهزية فرق الطوارئ في ليبيا، مشيرًا إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب رفع كفاءة العناصر الوطنية لمواجهة الطوارئ والكوارث الطبيعية والصناعية، بما يضمن حماية الأرواح والممتلكات، ويضع ليبيا على خارطة الدول القادرة على حماية مواطنيها.




التوقيعات.. من الورق إلى الإنجاز
اليوم الثاني من الزيارة حمل معه الحدث الأبرز: توقيع عدد من الاتفاقيات الرسمية في قطاعات متعددة، شملت: الصحة، التعليم التقني، الصناعة، الزراعة، الطوارئ، والداخلية.
هذه الاتفاقيات لم تكن مجرد بنود مكررة، بل تضمنت التزامات متبادلة، من ضمنها إنشاء خطوط إنتاج مشتركة، وتبادل خبرات فنية، وتسهيل حركة الطلبة والمبتعثين.
كان حضور رئيسي حكومتي البلدين دليلاً على الجدية، كما حملت الاتفاقيات توقيع وزراء متخصصين، مما يعني أن التنفيذ لن يضيع في البيروقراطية، فالاتفاقيات كانت أيضًا امتدادًا عمليًا لمذكرات التفاهم الموقعة في بنغازي، ما يعزز الموثوقية في العلاقات الثنائية.




الطلاب.. صوت الخارج في قلب الدولة
في لفتة إنسانية وطنية، عقد رئيس الحكومة الليبية اجتماعًا موسعًا مع الطلاب الليبيين في بيلاروسيا. لم يكن اللقاء دعائيًا أو صوريًا، بل كان جلسة استماع فعلية، امتدت إلى تفاصيل المشاكل الدراسية، والإدارية، وحتى المعيشية.
استمع الدكتور حماد، دون وسطاء، إلى مطالب الطلاب، ووجّه فوريًا بتسوية أوضاعهم، وسداد الرسوم المتأخرة، وتعيين مشرف طلّابي يتابع احتياجاتهم يومًا بيوم.
هذه الخطوة لم تمر عابرًا، بل حملت رسالة سياسية مفادها أن ليبيا لا تترك أبناءها، وأن الحكومة الليبية ترى في أبنائها في الخارج سفراء علم وأمل، وليسوا مجرد أرقام في تقارير السفارات.



نصب النصر.. رمزية التاريخ ومتانة العلاقات
بالتزامن مع الاحتفال بعيد الاستقلال البيلاروسي، شارك رئيس الحكومة الليبية في وضع إكليل من الزهور على نصب النصر في مينسك.
هذه المشاركة لم تكن بروتوكولية فقط، بل حملت بعدًا إنسانيًا وسياسيًا؛ فالتاريخ المشترك في مقاومة الاحتلالات، والاعتزاز بالسيادة الوطنية، يمثّل نقطة التقاء بين الشعوب.
كما زار الدكتور حماد المسجد ومتحف التاريخ الإسلامي في العاصمة البيلاروسية، مؤكدًا التزام ليبيا بدعم المؤسسات الدينية المعتدلة في الخارج، وتعزيز الوعي الثقافي الإسلامي المتوازن، بعيدًا عن التسييس أو التطرف.
الوفدُ الحكومي رفيع المستوى، أعرب أثناء ذلك عن استعداد ليبيا للمساهمة في تعليم الطلاب، وبناء وإعادة تأهيل المساجد القائمة، والتعاون مع الهيئة الدينية لمسلمي بيلاروسيا، بالإضافة إلى إرسال آلاف النسخ من القرآن الكريم إلى مسجد مينسك.




افتتاح القنصلية.. ليبيا تقرع أبواب العالم
في خطوة استراتيجية ضمن تعزيز الحضور الدبلوماسي الليبي، افتتح رئيس الحكومة مبنى القنصلية الليبية في مينسك، بحضور عدد من المسؤولين البيلاروس، وأعضاء السلك الدبلوماسي الليبي.
هذه الخطوة جاءت بعد افتتاح القنصلية البيلاروسية في بنغازي، ما يعكس تكاملًا دبلوماسيًا متصاعدًا بين البلدين.
رئيس الحكومة أثنى على جهود طاقم القنصلية، ووجّه بتقديم أقصى درجات الرعاية للجالية الليبية، لا سيما المرضى والطلاب، مؤكداً أن تمثيل ليبيا في الخارج ليس شأناً ثانوياً، بل هو امتداد لسيادة الدولة وصورتها.




بيلا إكسبو.. الثقافة والاقتصاد في تناغم
في إطار زيارته، تجوّل رئيس الحكومة الليبية في معرض “بيلا إكسبو 2025” ومتحف الحرب العالمية الثانية، حيث التقى بعدد من المستثمرين والمشاركين في المعرض، وقد شدد على أهمية تبادل الخبرات في المجال الصناعي، وفتح قنوات تعاون ثقافي ومعرفي بين البلدين.
المعرض لم يكن مجرد فعالية فنية، بل منصة لرؤية متكاملة تشمل البعد الاقتصادي، والثقافي، والدبلوماسي، ما يعكس إدراك الحكومة الليبية لأهمية الاندماج في الفضاء الإقليمي والدولي بأدوات متعددة.




الختام.. والعودة بالأمل
وفي اليوم الرابع، اختُتمت الزيارة الرسمية ببرود دبلوماسي وتوديع رسمي في مطار مينسك، حيث عبّر الجانب البيلاروسي عن تقديره لليبيا الجديدة، فيما غادر الوفد الليبي محملًا بما هو أكثر من الاتفاقيات: غادر بحصيلة علاقات ناضجة، وصورة جديدة للسياسة الليبية في محيطها الدولي.



لحظة الوصول إلى مطار بنينا الدولي في بنغازي كانت مهيبة؛ نائب رئيس الحكومة وعدد من الوزراء وقادة المؤسسة العسكرية كانوا في استقبال الدكتور أسامة حماد، الذي عاد لا كمن أنهى زيارة، بل كمن استعاد لليبيا مساحة جديدة على خريطة العالم.



الخلاصة
الزيارة الرسمية لرئيس الحكومة الليبية إلى بيلاروسيا ليست مجرد محطة خارجية ناجحة، بل هي ترجمة فعلية لتحوّل نوعي في الأداء الحكومي الليبي، لم تكن الكلمات والشعارات هي الأداة، بل الفعل المنهجي، والقرارات المدروسة، والتوقيعات ذات الأثر.
إنّ هذه الزيارة ترسم بداية مرحلة جديدة في السياسة الخارجية الليبية، قائمة على الشراكات المتوازنة، والاستفادة من التجارب الناجحة، وتثبيت حضور الدولة الليبية كفاعل إقليمي ودولي فاعل لا تابع.
ومع كل خطوة يُثبت رئيس الحكومة أن ليبيا ماضية في طريق البناء، وأن السياسة حين تكون صادقة وذكية، تصبح أداة للتنمية، لا مجرد لغة للمجاملات.