ليبيا تحت مشرط صندوق النقد: هل تصمد البلاد أمام “الروشتة الجاهزة”؟
انقسامات سياسية وإرث ثقيل من الفساد وسوء الإدارة
عبدالعزيز الزقم / ليبيا 24
حين تصدر مؤسسة مالية دولية كبرى مثل صندوق النقد الدولي تقريرًا بحثيًا عن ليبيا، فإنّ صدى ما بين أسطره يتجاوز الكلمات، ليرتطم مباشرةً بواقع هشّ، منهك بانقسامات سياسية، وإرث ثقيل من الفساد وسوء الإدارة. لكن أن يحمل هذا التقرير مقترحات بزيادة سعر الكهرباء والوقود أضعافًا مضاعفة، فالأمر لا يصبح مجرد توصية اقتصادية، بل أشبه بـ”وصفة صادمة” تلامس لقمة المواطن، وتضع رفاهيته – أو ما تبقّى منها – على المحك.
في بلاد مثل ليبيا، حيث تقف الحياة اليومية على حافة الهاوية، تكون القرارات الاقتصادية مصيرية لا تحتمل التبسيط أو النسخ من تجارب خارجية. فهل يمكن حقًا تطبيق “الروشتة الاقتصادية” التقليدية على جسد دولة لم يندمل فيه جرح الانقسام منذ 2011؟ وهل يدرك صندوق النقد حجم الفوارق بين بيئة مثل ليبيا، وأخرى مستقرة تمتلك مؤسسات راسخة وشبكات حماية اجتماعية؟
التوصيات التي فجّرت الغضب
في يوليو 2025، صدرت ورقة بحثية عن صندوق النقد الدولي تقترح رفع تعريفة الكهرباء في ليبيا من 0.04 دينار إلى 0.5 دينار لكل كيلووات/ساعة، وزيادة تدريجية في سعر لتر البنزين من 0.15 دينار حاليًا إلى 3.3 دنانير خلال ثلاث سنوات، مع إلغاء نصف الدعم في أول عام، واستكمال الإلغاء في عامين تاليين.
في المقابل، تقترح الخطة تعويض المواطنين بدعم نقدي مباشر يُقدّر بـ509 دنانير شهريًا.
قد تبدو الأرقام نظريًا جذابة، لكن الشيطان – كما دائمًا – يكمن في التفاصيل.
الرفض السياسي: صوت المواطن أولًا
لم تتأخر ردود الفعل كثيرًا. ففي بيان شديد اللهجة، أعلن حزب “صوت الشعب” رفضه القاطع لهذه المقترحات، مشددًا على أن “تحميل المواطن تكلفة الفساد والتهريب وسوء الإدارة دون ضمانات واضحة هو ظلم ممنهج”. تساءل البيان: من يضمن وصول الدعم النقدي المنتظم؟ من يضمن ألا يُهدر كما هُدرت المليارات سابقًا؟
الحزب لم يكتف بالرفض، بل قدّم رؤية بديلة تنطلق من مبدأ إصلاح جذور الأزمة بدلًا من قص فروعها: مكافحة التهريب، إصلاح المؤسسات، وإعادة هيكلة منظومة الجباية والإنفاق.
الغضب على منصات التواصل: الناس أول من يشعر
بعيدًا عن البيانات الرسمية، كان المواطن الليبي حاضرًا بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث اشتعلت موجة من الغضب الشعبي، وتحولت “روشتة الصندوق” إلى عنوان للسخرية والقلق.
تداول الليبيون صورًا لـ”لتر البنزين بثلاثة دنانير” بجانب خبزٍ لا يستطيع كثيرون شراؤه، وتحوّلت الزيادة المتوقعة إلى فزاعة تخيف أصحاب الدخل المحدود، وهم الغالبية. في بلد يصل فيه متوسط الدخل الشهري إلى أقل من 1000 دينار، فإن تخصيص نصفه للبنزين والكهرباء ليس إلا إعلانًا غير رسمي بالعجز عن العيش.
عطية الفيتوري: وصفة واحدة لا تصلح لكل الأجساد
كان من أبرز الأصوات المعارضة، الخبير الاقتصادي عطية الفيتوري، الذي رفض بشدة توصيات الصندوق، معتبرًا إياها “روشتة جاهزة لا تراعي الخصوصيات المحلية”. قال بوضوح: “الصندوق يطبّق وصفة واحدة على كل البلدان، وكأن ليبيا كألمانيا أو كوريا الجنوبية”.
أوضح الفيتوري أن الخطة المقترحة لا تأخذ بعين الاعتبار حجم الاقتصاد غير الرسمي، وضعف المؤسسات، وانعدام الشفافية في ليبيا، وهي عوامل تجعل تطبيق مثل هذه المقترحات أمرًا بالغ الخطورة.
ثم أطلق تحذيرًا جوهريًا: “إعادة تسعير الوقود بهذا الشكل ستؤدي إلى موجة تضخمية هائلة، وستُنهك الأسر الليبية دون أن تضمن أي تحسّن فعلي في الأداء الاقتصادي”.
القماطي: لا حلول تقليدية لواقع استثنائي
بدوره، ذهب د. حلمي القماطي – رئيس قسم الاقتصاد بجامعة بنغازي – إلى نقد جذري لتوجهات الصندوق، قائلًا إن “مشكلة ليبيا ليست في أرقام الميزانية، بل في بنية الدولة نفسها”.
شدّد القماطي على أن الواقع الليبي المعقد يتطلب حلولًا مخصصة، لا وصفات مالية جافة. وأضاف: “يمكن لأي خبير دولي أن يوصي بتقليص العجز، لكن لا أحد منهم يعيش في مدينة تُقطع عنها الكهرباء كل يوم، ولا تصلها الخدمات، ويُهدَّد سكانها بين الحين والآخر بانهيار أمني”.
المبروك أبوعميد: التشكيك في نوايا الصندوق
الرفض الاقتصادي اتّسع ليشمل الساحة السياسية، حيث صرّح المبروك أبوعميد، الرئيس السابق للمجلس الأعلى ورشفانة، قائلاً: “احذروا نصائح صندوق النقد… ما تدخّلوا في بلد إلا وأفقروا شعبها”.
كلام أبوعميد ليس جديدًا، بل هو صدى لمخاوف قديمة تسكن ذاكرة شعوب بأكملها. من الأرجنتين إلى تونس، مرورًا بلبنان ومصر، لا يُذكَر الصندوق إلا وتتبعه سرديات عن التقشف القاسي، وارتفاع الأسعار، وتدهور مستوى المعيشة.



