«ليبيا تحت مشرط صندوق النقد 2».. الاقتصاد الليبي.. هشّ لا يتحمّل الرفع
الاقتصاد الليبي على مصدر دخل شبه وحيد هو تصدير النفط

عبدالعزيز الزقم- ليبيا 24
ليبيا، على الرغم من ثرواتها النفطية الهائلة، تُعاني من هشاشة اقتصادية مزمنة. يعتمد الاقتصاد على مصدر دخل شبه وحيد هو تصدير النفط، بنسبة تفوق 90% من الإيرادات العامة، فيما تتراجع القطاعات الإنتاجية غير النفطية أمام فساد مزمن، وسوق موازية تضرب بجذورها في كل مفصل اقتصادي.
الدعم الحكومي للمحروقات والكهرباء يُمثّل صمام أمان لفئات واسعة من المواطنين، لا سيما في ظل غياب برامج فعالة للرعاية الاجتماعية، وضعف الحد الأدنى للأجور، وغياب التأمينات الصحية الشاملة.
وفق بيانات المصرف المركزي الليبي، تبلغ نفقات دعم المحروقات 16.1 مليار دينار، أي ما يقارب 13% من إجمالي الإنفاق العام في 2024. هذه النسبة تبدو ضخمة، لكنها في بلد يعتمد على اقتصاد ريعي، تُعتبر ضرورة سياسية واجتماعية، وليست ترفًا اقتصاديًا.
دعم المحروقات: بين “عبء الدولة” و”حق المواطن”
أنصار رفع الدعم يرونه تشوّهًا ماليًا يُغذي التهريب عبر الحدود، ويستنزف خزينة الدولة، ويصب في جيوب المهربين وشبكات السوق السوداء. أما المعارضون فيرونه شبكة أمان اجتماعية تحمي الملايين من الغلاء والتضخم والجوع.
هذا الجدل القديم-الجديد يتكرّر في كل محاولة لإصلاح الدعم، لكن الفارق اليوم أن صندوق النقد يضغط بقوة، والحكومة الليبية تبحث عن مصادر تمويل جديدة، وسط تحديات محلية ودولية.
لكن رفع الدعم دون ضمانات صارمة، ودون نظام دقيق لصرف الدعم النقدي البديل، قد يُنتج كارثة اجتماعية: بطالة أوسع، وطبقات وسطى تتساقط إلى قاع الفقر، وسخط شعبي يهدد الاستقرار الهش أصلًا.
التجارب الدولية: وصفة الصندوق في مرآة الشعوب
من مصر إلى تونس، ومن السودان إلى الأردن، دخلت عشرات الدول في برامج إصلاح اقتصادي تحت إشراف صندوق النقد، ورفعت دعم المحروقات، وزادت الضرائب، وخفضت الإنفاق العام.
لكن النتائج لم تكن متشابهة، ولا حتى مُرضية في كثير من الحالات. فبينما حققت بعض الدول استقرارًا نسبيًا في ميزانياتها، دفعت أخرى أثمانًا اجتماعية باهظة: احتجاجات، اضطرابات، تراجع في مؤشرات العدالة الاجتماعية، وزيادة في الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
في السودان مثلًا، أدى رفع الدعم إلى موجات عنف واحتجاجات، أجبرت السلطات على التراجع. وفي تونس، تسبب برنامج الصندوق في تآكل شعبية الحكومات، وانهيار الثقة في المؤسسات.
وفي مصر، على الرغم من نجاح الحكومة في تقليص عجز الميزانية، دفع المواطن البسيط ثمنا باهظا بارتفاع أسعار الغذاء، وتآكل القدرة الشرائية، وتزايد نسب الفقر.
فهل ليبيا قادرة على تجنّب هذه السيناريوهات؟
الواقع الليبي: بنية غير جاهزة لتطبيق الدعم النقدي
تقول ورقة صندوق النقد إن كل مواطن ليبي سيحصل على 509 دنانير شهريًا تعويضًا عن رفع الدعم، وهو رقم يُعد جيدًا على الورق، لكنه يطرح أسئلة مرعبة على الأرض:
• من سيتولّى صرف هذا المبلغ؟
• ما الجهة الضامنة لوصول الدعم شهريًا ومنتظمًا؟
• ما مصير المواطنين غير المسجَّلين في قواعد البيانات؟
• ماذا عن الأطفال، والعاطلين، وسكان المناطق المهمّشة؟
• كيف تُصرف هذه الأموال في ظل تعدّد الحكومات والسلطات؟
إن الحديث عن “دعم نقدي” في بلد يعاني من ضعف النظام المصرفي، والانقسام المالي والمؤسسي، وغياب الشفافية، أشبه بالقفز في الظلام. وليس أدلّ على ذلك من تجربة “منحة الزوجة والأبناء”، التي توقفت مرارًا رغم صغر قيمتها.
صندوق النقد: دوافع اقتصادية أم أجندة سياسية؟
خصوم الصندوق يرونه أداة في يد القوى الكبرى، يستخدمها الغرب لإعادة هندسة اقتصادات الدول النامية لصالح الشركات الدولية. ويذهب بعضهم إلى أن رفع الدعم في ليبيا ليس هدفًا ماليًا فحسب، بل وسيلة لإعادة تشكيل التوازنات الاجتماعية، والسيطرة على مفاصل الاقتصاد، وتسهيل دخول الشركات الأجنبية للاستثمار في قطاع الطاقة والنقل والخدمات.
أما الصندوق، فيدافع عن نفسه بأنه “يوصي فقط ولا يفرض”، وأن إجراءاته تهدف إلى تحقيق “استقرار اقتصادي مستدام”.
لكن كيف يمكن تحقيق هذا الاستقرار في بلد لا توجد فيه ميزانية موحدة أصلًا؟ فحتى الآن، لم تعتمد حكومة الدبيبة منتهية الولاية ولا الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد ميزانية موحدة تحظى بقبول مجلس النواب ومصرف ليبيا المركزي.
المصرف المركزي يدخل الخط
في أبريل الماضي، اقترح محافظ مصرف ليبيا المركزي مراجعة سياسة دعم المحروقات، واستبدالها بدعم نقدي مباشر، خلال لقائه برئيس الحكومة الليبية د. أسامة حماد.
لكن المقترح ظل حبيس اللقاءات، دون أن يتبلور في برنامج عملي واضح. ويُنظر إلى تدخل المصرف المركزي في هذه الملفات الحساسة باعتباره محاولة لتوجيه السياسة المالية بما يتماشى مع توجهات الصندوق، أو في إطار ما تسميه بعض الأوساط “تحضير الأرضية للرفع القادم”.
السيناريوهات المتوقعة: إلى أين تمضي ليبيا؟
أمام الحكومة الليبية خيارات محدودة، وكلها تحمل كلفة:
1. تطبيق جزئي لخطة الصندوق، مع رفع تدريجي ومدروس، وضمانات لصرف الدعم النقدي. وهو خيار يحتاج إلى توافق سياسي ومؤسسي، قد لا يكون متاحًا.
2. رفض التوصيات كليًا، والمضي في نموذج الدعم القديم، مع محاولة إصلاح منظومة التهريب والفساد. لكنه خيار يُبقي العجز المالي قائمًا، ويُبعد ليبيا عن برامج التمويل الدولية.
3. خيار ثالث هجين: رفع الدعم عن قطاعات معينة (مثل الشركات الكبرى أو الصناعات الثقيلة)، مع الإبقاء على الدعم المنزلي، وفرض تسعيرتين للكهرباء والوقود.
في جميع الحالات، المفتاح هو الشفافية. فالليبيون لا يرفضون الإصلاح من حيث المبدأ، بل يرفضون أن يدفعوا وحدهم ثمن أخطاء لم يرتكبوها، دون رؤية واضحة أو عدالة في التطبيق.
خاتمة: بين مطرقة الواقع وسندان الصندوق
ليبيا ليست سويسرا، ولا تُشبه اليونان، ولا تُدار كالدول الخليجية. إنها بلد هش، ممزق، لكنه غني بالموارد والطاقات. وما تحتاجه ليس إملاءات فوقية، بل إصلاحًا حقيقيًا ينبع من الداخل، يُشخّص الداء قبل وصف الدواء.
وإلا، فإن وصفة صندوق النقد – كما أثبت التاريخ – لا تشفي، بل قد تُعمّق الجراح. وبين أسعار كهرباء لا تُحتمل، وبنزين يُباع بثلاثة دنانير، ومواطن يئن من فاتورة معيشته، تبرز حقيقة واحدة:
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ برفع الدعم، بل بإعادة الثقة.