
في بلد أنهكته الأزمات السياسية والاقتصادية، وبينما ينتظر المواطن الليبي أن تكون مؤسساته الرقابية صمام الأمان وحارسًا للمال العام، تكشف وثائق مسرّبة عن فضيحة مدوية تطال رأس هرم جهاز يفترض أن يقف سدًّا منيعًا في وجه الفساد.
الوثائق المتداولة أظهرت تورط رئيس هيئة الرقابة الإدارية ، عبدالله قادربوه، في قضية فساد مالي ضخمة، بعد أن تلقى أموالًا مشبوهة تجاوزت قيمتها ثلاثة ملايين ونصف المليون دينار ليبي أودعتها شركة خاصة تُدعى “الربيع للتعهدات والتموين” في حسابه الشخصي.
المثير للانتباه أن مصرف ليبيا المركزي لم ينكر هذه التحويلات، بل أكدها رسميًا في مراسلة موجّهة إلى ديوان المحاسبة، أوضح فيها أن الصكوك المصدّقة الصادرة من حرس المنشآت وصلت فعلًا إلى حساب شركة الربيع، ومنه إلى حساب قادربوه. هذا الإقرار منح الوثائق المسرّبة قوة إضافية، وحوّلها إلى أدلة يصعب التشكيك فيها.
خرق صارخ للقوانين الليبية
القضية في جوهرها تمثل خرقًا صارخًا للقوانين الليبية، التي تمنع أي موظف في المناصب الرقابية أو السيادية من تلقي أموال أو مزايا من جهات خاضعة لرقابته، تحت طائلة العقوبات الجنائية وفقدان شرط النزاهة والحياد. ما قام به قادربوه يُعد استغلالًا للمنصب العام من أجل تحقيق منافع شخصية، ويكشف عن تضارب مصالح واضح، فضلًا عن إساءة استعمال السلطة على نحو يهز ثقة المواطن في مؤسسة يفترض أن تكون حصنًا ضد الفساد لا شريكًا فيه.
آلية الفساد كما توضّحها التحقيقات لم تكن نتيجة خطأ عابر، بل بدت عملية منظمة؛ إذ جرى تحويل الأموال من حرس المنشآت النفطية إلى شركة الربيع عبر صكوك مصرفية، ثم إعادة ضخ المبالغ إلى الحساب الشخصي لعبدالله قادربوه بشكل متكرر، ما جعلها أقرب إلى عملية غسل أموال ممنهجة.
ورغم خطورة ما تكشفه الوثائق، لم يصدر عن قادربوه أو هيئة الرقابة الإدارية أي تعليق رسمي حتى الآن، بينما يؤكد قانونيون أن ما ورد في المستندات كافٍ لعرضه على القضاء، وقد يقود إلى توجيه اتهامات بالرشوة واستغلال الوظيفة العامة وغسل الأموال، وهي تهم تصل عقوبتها إلى السجن المشدد ومصادرة الأموال.
تهدد ثقة الليبيين في كامل المنظومة الرقابية
تداعيات هذه الفضيحة لا تقتصر على شخص قادربوه، بل تهدد ثقة الليبيين في كامل المنظومة السيادية والرقابية، إذ كيف يمكن لجهاز مكلف بمحاربة الفساد أن يلاحق قضايا صغيرة بينما يغض الطرف عن رئيسه المتورط في ملايين الدنانير؟ القضية تمس صميم العلاقة بين المواطن والدولة، وتثير الشكوك حول نزاهة الأجهزة الأخرى، فضلًا عن انعكاساتها السلبية على ثقة المستثمرين واستنزاف موارد حيوية مرتبطة بعائدات النفط.
من يراقب المراقب؟
أمام هذه المعطيات يبرز سؤال جوهري: من يراقب المراقب؟ ومن يحاسب الحارس حين يتحول إلى متهم؟ الأصوات السياسية والشعبية في ليبيا تطالب بفتح تحقيق قضائي عاجل ومستقل، وتجميد أرصدة قادربوه، ومراجعة معاملاته المصرفية، إلى جانب مساءلة مسؤولي حرس المنشآت النفطية الذين سمحوا بتمرير الأموال، والتحقيق مع شركة الربيع التي لعبت دور الوسيط في هذه العمليات.
القضية إذًا ليست حادثة فردية، بل انعكاس لحالة أعمق من الفساد الممنهج، الذي يتغلغل في مفاصل الدولة ويجد لنفسه غطاءً سياسيًا يحميه تجعل مستقبل البلاد مرهون بمنظومة فساد لا تعرف حدودًا، في وقت يبحث فيه المواطن الليبي عن أمل مفقود في مؤسسات دولته.