تغير الأولويات الأمريكية في تسليح الحلفاء – بين “أميركا أولاً” ودعم إسرائيل
أميركا تعلق سراً مبيعات أسلحة إلى أوروبا لتجديد مخزونها

في تطور لافت يشير إلى تحول استراتيجي في السياسة الدفاعية للولايات المتحدة، كشفت تقارير إعلامية عن قيام واشنطن سراً بتعليق بعض مبيعات الأسلحة إلى أوروبا، لصالح تجديد مخزونها العسكري المحلي، تنفيذاً لمبدأ “أميركا أولاً” الذي عاد بقوة إلى الواجهة مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
ويأتي هذا التغير في وقت تواصل فيه الإدارة الأميركية مساعيها لتوسيع صفقات الأسلحة مع إسرائيل، بالتزامن مع تصاعد الحرب على غزة. هذا التحول في ميزان الأولويات يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل العلاقات الدفاعية الأميركية الأوروبية، وتأثيره على توازن القوى في الشرق الأوسط.
تعليق سري لصفقات السلاح إلى أوروبا – مؤشرات على تحول استراتيجي
كشفت مجلة ذا أتلانتيك أن وزارة الحرب الأميركية (البنتاجون) علّقت فجأة صفقة دفاع جوي بمليارات الدولارات كانت قيد التفاوض مع الدنمارك، دون المرور بالإجراءات الاعتيادية مثل مراجعة وزارة الخارجية والوكالات المختصة. ويُعتقد أن هذا القرار جاء نتيجة لتصاعد نفوذ تيار “أميركا أولاً” داخل إدارة ترمب الثانية، الذي يدعو إلى إعطاء الأولوية لتجديد الترسانة العسكرية الأميركية على حساب الصادرات إلى الحلفاء.
ويمثل هذا التغير نقطة انعطاف في السياسة الدفاعية الأميركية، حيث كانت واشنطن، حتى وقت قريب، تروج لصادرات الأسلحة باعتبارها أداة لتعزيز التحالفات، وخاصة مع دول “الناتو”، في مواجهة التهديدات المشتركة مثل روسيا.
استمرار الدعم العسكري المكثف لإسرائيل رغم التصعيد في غزة
على النقيض من التراجع في مبيعات الأسلحة لأوروبا، تسعى إدارة ترمب إلى تمرير عدة صفقات ضخمة لتسليح إسرائيل، رغم التصعيد العسكري في قطاع غزة. وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن الإدارة الأميركية عرضت على الكونجرس صفقة بقيمة 3.8 مليار دولار لتوريد 30 مروحية هجومية من طراز أباتشي AH-64، ما يُضاعف الأسطول الإسرائيلي من هذه الطائرات.
كما عرضت صفقة أخرى بقيمة 1.9 مليار دولار لتزويد إسرائيل بـ 3,250 مركبة مشاة هجومية وصفقة ثالثة بقيمة 750 مليون دولار لتزويد تل أبيب بقطع غيار وإمدادات الطاقة لناقلات الجنود المدرعة.
وأكدت التقارير أن مقترحات هذه الصفقات قُدمت إلى قادة الكونجرس قبل الهجوم الإسرائيلي الأخير على قادة من حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، ما يعكس وجود خطة مسبقة لدعم إسرائيل عسكريًا، بغضّ النظر عن تطورات الأوضاع الميدانية.
هيمنة أميركية على سوق السلاح العالمي – واستفادة من الحروب
رغم تعليق بعض صفقات التسليح، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بموقع الصدارة في سوق الأسلحة العالمي. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI):
استحوذت شركات السلاح الأميركية على 43% من صادرات الأسلحة العالمية خلال السنوات الخمس الماضية، ارتفاعًا من 35% في الفترة السابقة.
شكلت الولايات المتحدة المصدر الأول للأسلحة إلى أوروبا، حيث زادت صادراتها إلى الدول الأوروبية الأعضاء في حلف “الناتو” من 52% (2015-2019) إلى 64% (2020-2024).
ويُعزى هذا النمو في الطلب الأوروبي إلى تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، والضغوط الأميركية المستمرة لزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وهو ما دفع عددًا من الدول الأوروبية لتحديث ترساناتها العسكرية، عبر اقتناء مقاتلات F-35، ومنظومات الدفاع الجوي باتريوت، ومنصات الصواريخ هيمارس.
تحولات في السوق الأوروبية وتقدم فرنسي ملحوظ
في ظل هذا المشهد المتغير، برزت فرنسا كمصدر رئيسي للأسلحة، لتصبح ثاني أكبر مصدر عالمي بعد الولايات المتحدة، متجاوزة روسيا. كما سجلت دول كبرى مثل الهند أعلى معدلات الاستيراد للسلاح، تليها دول في الشرق الأوسط وآسيا.
وفي أوروبا، تضاعف حجم واردات الأسلحة من قبل الدول الأعضاء في الناتو بين عامي (2015-2019) و(2020-2024)، ما يدل على ارتفاع ملحوظ في الاستعدادات الدفاعية، خاصة في ظل التهديدات الأمنية المتزايدة.
مستقبل العلاقات الدفاعية عبر الأطلسي – إلى أين؟
التحولات الأخيرة في السياسة الأميركية تثير تساؤلات حول مستقبل العلاقة الدفاعية بين واشنطن وأوروبا.. فتعليق الصفقات الدفاعية الأوروبية قد يُفهم على أنه إعادة تموضع استراتيجي، لكنه يفتح المجال أمام فرنسا وكوريا الجنوبية وحتى الصين وروسيا لتعزيز حضورها في السوق الأوروبية.
كما ان الاستمرار في دعم إسرائيل عسكرياً، خاصة في فترات الحرب، يعزز الانطباع بانحياز أميركي واضح، ما قد ينعكس سلبًا على صورة واشنطن في العالم العربي وأوروبا.
كما أن تركيز واشنطن على مخزونها المحلي قد يُجبر الدول الأوروبية على تبني سياسات تصنيع وتسليح مستقلة في السنوات المقبلة، وربما التحرك نحو استقلالية استراتيجية في الأمن والدفاع.
تُظهر هذه التطورات أن مبدأ “أميركا أولاً” لم يعد مجرد شعار انتخابي، بل أصبح سياسة واقعية تنعكس على قرارات البنتاغون والبيت الأبيض. وبينما تستمر الولايات المتحدة في دعم إسرائيل بشكل غير مشروط، فإن تعليق بعض صفقات الأسلحة إلى أوروبا يشير إلى تغير جذري في نظرة واشنطن إلى تحالفاتها التقليدية. هذا الواقع الجديد قد يدفع الحلفاء الأوروبيين إلى إعادة تقييم علاقتهم الدفاعية مع واشنطن، وربما الإسراع في بناء منظومات دفاعية أوروبية مستقلة.