اتفاق طرابلس الأمني: تسليم معيتيقة يمهد لطيّ صفحة السلاح أم هدنة هشة تنتظر الانفجار؟
تسوية طرابلس تواجه اختبار التنفيذ وسط تفاؤل حذر وتحذيرات من تعقيدات الميدان.

طرابلس – ليبيا 24
اتفاق أمني في طرابلس يتعلق بتسليم معيتيقة وضبط التشكيلات المسلحة.
في تطور بالغ الأهمية، تشهد طرابلس أجواءً من الهدوء الحذر بعد التوصل إلى تسوية بين حكومة الدبيبة المنتهية الولاية وجهاز الردع لمكافحة الجريمة، تنص على تسليم مطار معيتيقة الدولي وبدء ترتيات لضبط الأجهزة الأمنية وإنهاء مظاهر التسلح، في خطوة يُعتقد أنها تهدف إلى تجنيب المدينة ويلات حرب كانت تهدد بالاندلاع. لكن هذه التسوية، التي تمت وسط صمت إعلامي وعدم إعلان رسمي، تثير تساؤلات مصيرية حول ضمانات تنفيذها وإمكانية تجاوزها عقبات الميدان المعقدة وأجندات الأطراف المتشابكة.
تفاصيل التسوية: بين التسليم المؤسسي وضبط الأمن
جاءت هذه التسوية تتويجاً لجهود مكثفة استمرت على مدى شهرين، برعاية من رئيس المجلس الرئاسي السيد محمد المنفي ورئيس الحكومة المنتهية الولاية السيد عبد الحميد الدبيبة، وبمتابعة من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. ولم يُكشف عن نص الاتفاق بشكل رسمي، لكن تصريحات المسؤولين أشارت إلى أنه اتفاق مكتوب.
ووفقاً للمعلومات المتاحة، فإن بنود التسوية لا تقتصر على تسليم مطار معيتيقة، بل تمتد لتشمل المنافذ البحرية والجوية الأخرى، بالإضافة إلى السجون ومراكز الاحتجاز، مع وضع ضوابط دقيقة تنظم إجراءات القبض والتحقيق، بهدف إخضاع هذه المؤسسات بالكامل لسلطة الدولة والوزارات المعنية. كما شملت التسوية آليات لتعزيز الترتيبات الأمنية في العاصمة وضمان العدالة وعدم التمييز بين المؤسسات والمناطق.
سياق متوتر: حشود عسكرية وأجواء مشحونة
لم تأتِ هذه التسوية من فراغ، بل جاءت في سياق بالغ الحساسية والتوتر. فقد شهدت طرابلس والمنطقة الغربية في الأشهر الماضية، وتحديداً منذ منتصف مايو الماضي، حالة استنفار أمني غير مسبوقة، مع وصول أرتال عسكرية كبيرة من مدن مختلفة إلى أطراف العاصمة. تكونت هذه الحشود من قوات موالية لحكومة الدبيبة، معظمها من مصراتة، في مواجهة قوات “جهاز الردع” المدعومة من مناطق مثل الزاوية والزنتان.
هذا التمركز العسكري الكثيف على المحاور الحيوية للمدينة نذر بمواجهات واسعة النطاق، لا سيما في ظل المواجهات المسلحة المحدودة التي اندلعت سابقاً بين الطرفين، والتي كادت أن تدفع بطرابلس إلى حرب شاملة. وقد شكلت الاشتباكات التي وقعت مؤخراً في منطقة جنزور غرب طرابلس تذكيراً صارخاً بحجم التوتر القائم وسهولة انزلاق الوضع إلى العنف مرة أخرى.
تحديات التنفيذ: العقبة الكأداء أمام التسوية
رغم التفاؤل الذي أحدثته خطوة تسليم المطار، يظل الجانب العملي والإجرائي هو التحدي الأكبر الذي يهدد باستدامة هذه التسوية. فبيئة طرابلس الأمنية تنبض بتعقيدات هائلة، حيث الولاءات المتشابكة والمصالح المتضاربة والانفلات الأمني المزمن. ويتفق مراقبون على أن تحويل بنود الاتفاق المكتوبة إلى إجراءات ملموسة على الأرض هو المعضلة الحقيقية.
فمن جهة، يرى عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي أن “الاتفاق أمر وتنفيذه أمر آخر”، معتبراً إياه مجرد وسيلة لكسب الوقت وليس أكثر، ومشككاً في قدرته على الصمود أمام تعقيدات الواقع. ويشاركه هذا القلق أستاذ العلوم السياسية عثمان البوسيفي، الذي يذهب إلى أن التسوية الحالية ليست سوى “تأجيل للصراع” وليست حلاً جذرياً، نظراً لغياب ضمانات ملموسة لتطبيق البنود، ولأن هذه التشكيلات المسلحة “تتغذى مالياً على أماكن نفوذها وتغلغلها في مؤسسات الدولة”.
ضمانات غير معلنة: وراء الكواليس
يكمن جزء كبير من الغموض المحيط بمستقبل التسوية في طبيعة الضمانات التي قدمت للأطراف، خاصة لجهاز الردع، لقبوله بتسليم مواقع نفوذ حيوية مثل مطار معيتيقة، الذي يتخذ منه مقراً رئيسياً. فعدم الإعلان الرسمي عن التفاصيل الكاملة للاتفاق، وفقاً لـ زياد دغيم، يعكس رغبة الأطراف في “ضمان تنفيذ الاتفاق” وتجنب الضغوط الناجمة عن “عقلية صفرية سائدة وخطاب إعلامي غير مسؤول”، حيث أن التنفيذ يسير على أساس “خطوة تقابلها خطوة”.
ويطرح بعض المحللين، مثل أمينة المحجوب عضوة المجلس الأعلى للدولة، فرضية أن الضمانات قد تكون مرتبطة بملفات العدالة والملاحقات القضائية، مشيرة إلى أن بعض قيادات الجهاز مطلوبون للعدالة الدولية. وترجح أن تكون هناك وعود بعدم ملاحقتهم قضائياً مقابل تسليمهم الكامل للمؤسسات الرسمية. من ناحية أخرى، يصر محللون مثل ناصر بوديب على ضرورة معرفة هذه الضمانات والجهة التي قدمتها للتحقق من مصداقيتها وقدرتها على ضمان استمرارية التنفيذ.
قراءات متفاوتة: بين التفاؤل والتشاؤم
انقسمت القراءات حول هذه التسوية بين متفائل يرى فيها بارقة أمل، ومتشكك يعتبرها مجرد هدنة مؤقتة. فمن وجهة نظر المتفائلين، مثل المحلل عبد الرحمن الفيتوري، فإن الاتفاق يمثل “خطوة شجاعة تستهدف وأد فتيل الأزمة من جذورها”، مشيداً بالجهود التي قادتها الحكومة والمجلس الرصيفي لإعادة هيكلة التشكيلات المسلحة وفق القانون. ويؤكد أن جنوح الأطراف إلى “صوت الحكمة” من شأنه أن يغلب على حسابات السياسة والنفوذ.
ويذهب عضو المجلس الأعلى للدولة أحمد همومة في نفس الاتجاه، معتبراً أن الاتفاق مهم ويمكن البناء عليه لحل كافة التشكيلات المسلحة، ومنح الحكومة فرصة لإنجاز خيار الشعب الليبي في إنهاء مظاهر السلاح وتهيئة أجواء آمنة لإجراء الانتخابات.
في المقابل، يرى المتشككون أن التسوية تخدم بالدرجة الأولى تعزيز المواقع التفاوضية للأطراف وليس حلاً جذرياً. فالنائب العرفي يعتقد أن الهدف هو “تقوية وضع الدبيبة التفاوضي بدرجة أولى والتهام كل التشكيلات المسلحة”، متوقعاً ألا تصمد التسوية طويلاً.
المسار المستقبلي: نحو استقرار دائم أم عودة إلى مربع الصفر؟
تبقى التساؤلات حول مصير هذه التسوية مرهونة بالأيام المقبلة وقدرة الأطراف على تجاوز تحديات التنفيذ الجسيمة. إن نجاحها سيفتح الباب حقاً لطيّ صفحة طويلة من الانفلات الأمني وسيادة السلاح في طرابلس، ويعيد هيبة الدولة ومؤسساتها، ويمهد ربما لظروف أكثر ملائمة لإجراء الانتخابات التي طال انتظارها.
أما فشلها، والعودة إلى موجة عنف جديدة، فسيعيد البلاد إلى المربع صفر، بل وقد يفاقم الأزمة إلى حد كبير. إنه اختبار مصيري لإرادة الأطراف وحكمتها، وشاهد على مدى جاهزية الليبين لتحمل مسؤولية كتابة مستقبلهم بعيداً عن لغة السلاح والصراع. والعاصمة طرابلس، التي سئم أهلها مشاهد الدمار والقتال، تنتظر بفارغ الصبر لتعرف إذا كان هذا الاتفاق هو بداية النهاية لكابوسها الأمني، أم مجرد استراحة محارب قصيرة تسبق عاصفة أعنف.