الجديد: المركزي أصاب في تقييم الذهب وأخطأ إعلاميًا
الجديد: أزمة السيولة لن تُحل دون اقتلاع الجيل المصرفي الحالي

ليبيا 24
الجديد: المركزي أصاب في تقييم الذهب.. وأخطأ في الرسالة
في قراءة تحليلية معمقة للجدل الدائر حول إعادة تقييم احتياطيات الذهب في مصرف ليبيا المركزي، قدّم الخبير الاقتصادي مختار الجديد تفسيرًا شاملًا لخطوة المصرف وتداعياتها المحاسبية والاقتصادية والإعلامية، مؤكدًا أن القرار في جوهره صحيح من الناحية المحاسبية ومتوافق مع معايير الإفصاح المالي، إلا أن التعاطي الإعلامي معه جاء مشوشًا ومضللًا ما أدى إلى اتساع دائرة الشائعات حول بيع جزء من احتياطي الذهب أو استخدامه في تغطية العجز المالي.
الفارق بين “التكلفة التاريخية” و”القيمة العادلة”
أوضح الجديد في عدة منشورات له عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك رصدتها ليبيا 24 أن البنك المركزي كان لسنوات طويلة يُقيّم احتياطياته من الذهب وفقًا لسعر الشراء التاريخي القديم، وهو ما جعلها تظهر في تقاريره المالية بمبالغ زهيدة لا تتجاوز سبعة وأربعين مليون دينار حتى عام 2023. هذه القيمة، كما قال، لا تعكس الواقع ولا تُمثل الحجم الحقيقي للأصول، فضلًا عن مخالفتها لمبادئ الإفصاح المحاسبي التي تُشجّع على التقييم وفق القيمة العادلة.
وأشار إلى أن إدارة المصرف الحالية قامت في نهاية عام 2024 بإعادة تقييم الذهب بسعر السوق، ليظهر الرصيد الجديد بما يقارب ستة وثلاثين مليار دينار، وهو ما يكشف الفارق الضخم بين التقييم القديم والجديد، ويُبرز حجم التضليل الذي كانت تُمارسه الإدارات السابقة عبر إخفاء القيمة الحقيقية للاحتياطيات.
قرار صائب اقتصاديًا.. لكنه مضطرب إعلاميًا
أكد الجديد أن خطوة المصرف المركزي صحيحة تمامًا من حيث المنهج المحاسبي، إذ تُمثل تطبيقًا لمعايير الشفافية والإفصاح المالي. غير أنه انتقد طريقة عرض القرار إعلاميًا، مشيرًا إلى أن المصرف لم يُحسن اختيار توقيت أو صياغة بيانه الأخير الذي أشار فيه إلى “تغطية العجز في ميزان المدفوعات باستثمارات الذهب”، وهي العبارة التي أثارت اللبس وأوحت بأن الذهب تم بيعه بالفعل.
وأوضح أن الهدف من البيان كان إبراز متانة الاحتياطيات بعد إعادة تقييمها، إلا أن الصياغة الملتبسة دفعت الشارع إلى الاعتقاد بأن هناك بيعًا فعليًا للذهب أو استخدامًا لفروق التقييم في تمويل إنفاق حكومي، وهو ما نفاه الجديد بشكل قاطع، مؤكدًا أن تلك الأرباح غير المحققة لا تُعد أرباحًا تشغيلية ولا يجوز التصرف فيها أو توزيعها.
أرباح على الورق لا تُموّل العجز
شدد الخبير الاقتصادي على أن أرباح إعادة التقييم ليست أرباحًا حقيقية يمكن أن تُستخدم في تمويل العجز أو دعم الإنفاق، لأنها لم تتحقق فعليًا عبر بيع الذهب أو التصرف فيه، بل هي مجرد فروق محاسبية ناتجة عن تغير الأسعار. وبيّن أن المعايير الدولية واضحة في هذا الشأن، إذ تُلزم المؤسسات المالية بفصل الأرباح غير المحققة عن الدخل الفعلي للنشاط.
وقال الجديد إن الخطوة، وإن كانت صحيحة في جوهرها، فقد أُسيء فهمها بسبب ضعف التواصل المؤسسي وغياب الشرح الفني المسبق للرأي العام، مضيفًا أن “الإفصاح المالي لا يكتمل بالأرقام فقط، بل بالقدرة على توضيح معانيها وتأثيراتها”.
عمولات المصارف.. من الإيداع إلى السحب
انتقل الجديد في تحليله إلى سياسات المصارف التجارية في التعامل مع النقد، منتقدًا ما وصفه بـ”القرارات المتناقضة” التي تُكرّس أزمة السيولة بدل أن تُخففها. وأوضح أنه بينما طالب الاقتصاديون بفرض عمولة على الإيداع النقدي لتشجيع استخدام وسائل الدفع الإلكتروني، فوجئ الجميع بإقرار عمولة على السحب النقدي، وهو ما جعل النقد الورقي أكثر قيمة في نظر الناس، وحوّله إلى سلعة مطلوبة بدل أن يكون أداة متداولة.
وأضاف ساخرًا: “إذا كانت المصارف نفسها أصبحت لا تمنح الكاش إلا بعد عمولة، فكيف نلوم الناس على عشقهم للنقد؟”، مشيرًا إلى أن هذه السياسة تجعل المواطن يُفضل الاحتفاظ بالنقد بدلاً من استخدام وسائل الدفع الحديثة، وهو ما يُقوّض فكرة التحول الإلكتروني التي يتحدث عنها المصرف المركزي.
الحاجة إلى ضخ السيولة بدل فرض القيود
أشار الجديد إلى أنه إذا كان المصرف المركزي يتبنى فلسفة فرض العمولات على السحب النقدي، فعليه أن يُوفّر النقد للناس ويطبع كميات كافية لتغطية الطلب، لأن السياسات الحالية لا تُعالج جوهر المشكلة بل تزيدها تعقيدًا. وأوضح أن “التحول الإلكتروني ليس مجرد إجراءات جزئية، بل استراتيجية اقتصادية تحتاج إلى بيئة مصرفية نزيهة وكوادر مؤهلة”.
مثال توضيحي من الواقع
وضرب الجديد مثالًا شخصيًا يوضح الفارق بين القيمة الدفترية للأصول وواقع الدخل والإنفاق، قائلاً: “في بداية الشهر كان لدي ذهب بقيمة عشرين ألفًا ورصيد في المصرف ثلاثين ألفًا، أي مجموع خمسين ألفًا. خلال الشهر نزل مرتبي ثلاثة آلاف دينار وصرفت خمسة آلاف، أي أنني عجزت بألفين سحبتها من المصرف. بنهاية الشهر أصبح رصيدي بالمصرف ثمانية وعشرين ألفًا، بينما ارتفعت قيمة الذهب إلى اثنين وثلاثين ألفًا بسبب ارتفاع الأسعار. فهل وضعي جيد لأن ثروتي الإجمالية زادت إلى ستين ألفًا؟ أم أن وضعي سيئ لأن إنفاقي تجاوز دخلي؟”.
وأوضح أن المثال يُجسّد بدقة ما يحدث في الاقتصاد الليبي، فارتفاع قيمة الذهب لا يعني تحسن الوضع المالي الفعلي، لأن الدخل الحقيقي للمواطنين لا يزال محدودًا، والإنفاق يفوق القدرة الشرائية.
الفساد المصرفي والعجز عن الإصلاح
توقف الجديد عند أزمة السيولة، معتبرًا أنها لن تُحل ما دام المسؤولون عنها هم المستفيدون منها. وقال بوضوح: “كيف نطلب ممن يربحون من الأزمة أن يقدموا الحل لها؟”، موضحًا أن بعض مديري المصارف والموظفين الكبار يجنون أرباحًا ضخمة من خلال تجارة الدولار بالصكوك والتحويلات، حيث يشترون الدولار بالصك ثم يبيعونه نقدًا ويكررون العملية محققين مكاسب بمئات الآلاف شهريًا.
وأضاف أن هذه المنظومة الفاسدة تغذي استمرار الأزمة وتمنع أي حل جذري، معتبرًا أن “مشكلة السيولة لن تُحل ما لم يُنسف الجيل الحالي من مديري المصارف اقتلاعًا كاملاً”، في إشارة إلى الحاجة لإصلاح إداري ومؤسسي شامل يعيد الانضباط والشفافية للقطاع المصرفي.
غياب أثر تراجع سعر الصرف على الأسعار
وحول استمرار ارتفاع الأسعار رغم تحسن نسبي في سعر صرف الدينار، أوضح الجديد أن السبب يعود إلى أن السلع تُسعّر وفق سعر الدولار بالصكوك والتحويلات، وليس وفق سعر الكاش. وقال إن أي انخفاض في السعر الرسمي لن ينعكس على السوق ما دام هذا التفاوت قائمًا، مضيفًا أن الحل يبدأ حين يصبح الدولار بالصك أرخص من الدولار النقدي، وهو ما يتطلب من المصرف المركزي فهم الأسباب الحقيقية للفجوة السعرية ومعالجتها عمليًا.
التحول الإلكتروني.. رؤية غائبة
اختتم الجديد تحليله بالتأكيد على أن التحول نحو الاقتصاد الرقمي ليس مجرد شعارات أو إجراءات متفرقة، بل هو رؤية متكاملة تتطلب إصلاحًا في السياسات النقدية والبنية التحتية والثقافة المصرفية، معتبرًا أن فرض العمولات دون معالجة الأسباب العميقة يشوّه أهداف التحول الإلكتروني بدل أن يخدمها.
وأكد أن بناء الثقة بين المواطن والمصرف هو الأساس في أي إصلاح نقدي، مضيفًا أن الشفافية والاتصال الواضح مع الجمهور يمثلان الركيزة الأولى لأي استقرار مالي حقيقي، وأن القرارات الاقتصادية الكبرى تحتاج إلى شرح فني وإعلامي متكامل يمنع التفسير الخاطئ ويُحصّن السياسات من الشائعات.
وختم الجديد قائلاً:
“لا نبحث عن إجابات جاهزة بقدر ما نحتاج إلى قراءة الواقع كما هو، فالمشكلة ليست في الأرقام فقط، بل في العقول التي تديرها.”