عربى

إدريس أحميد يكتب: العلاقات الجزائرية المغربية.. بين إرث الخلاف وفرص التحوّل

المنطقة أمام لحظة حاسمة قد تحدد مستقبل العلاقات المغاربية برمتها

بقلم: إدريس أحميد .. صحفي وباحث في الشأن السياسي والدولي

منذ اندلاع الخلاف حول الصحراء الغربية منتصف السبعينيات، ظلت العلاقات الجزائرية المغربية تراوح بين التوتر والقطيعة، في واحدة من أعقد القضايا الإقليمية التي عطلت بناء الاتحاد المغاربي وأضعفت التعاون بين بلدين تجمعهما الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك.

لكنّ خطاب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الأخير أمام كبار قادة الجيش فتح باب التساؤلات من جديد:

هل بدأت الجزائر تعيد النظر في مواقفها؟

وهل ما قاله تبون مجرد لغة دبلوماسية جديدة أم تمهيد لتحول سياسي محسوب؟

خطاب مختلف… لغة جديدة

في كلمته الأخيرة، تجنّب تبون ولأول مرة استخدام المفردتين اللتين رافقتا الخطاب الرسمي الجزائري لعقود: “الاستفتاء” و“الاستقلال”.

واكتفى بالقول إن “الجزائر ستدعم أي خيار يختاره الصحراويون”، مضيفًا عبارته اللافتة:

“لا ينبغي أن نكون صحراويين أكثر من الصحراويين.”

هذه الجملة بدت أكثر من مجرد زلة لسان، إذ حملت دلالات سياسية اعتبرها المراقبون إشارة إلى بداية تليين الموقف الجزائري، مع الإبقاء على الثوابت المعلنة — أي دعم “حق تقرير المصير” دون الدخول في مواجهة مباشرة مع المقترح المغربي.

موقف الجيش الجزائري… الحسابات الإقليمية والثابتة

من المعروف أن الجيش الجزائري يلعب الدور المركزي في رسم السياسات الكبرى، وخاصة تلك المتعلقة بالأمن الإقليمي والسياسة الخارجية.

وقد ظلّ موقفه من المغرب متشددًا وثابتًا، بحكم رؤيته الجيوسياسية لدور الجزائر في شمال إفريقيا والساحل، حيث يعتبر أن أي تقارب مع المغرب قد يُفسَّر داخليًا كتنازل سياسي أو تراجع عن “الثوابت الوطنية”.

لكن مع المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، بدأ الجيش يدرك أن استمرار الجمود لم يعد يخدم موقع الجزائر الاستراتيجي، وأن البراغماتية السياسية قد تكون خيارًا أفضل للحفاظ على نفوذها دون خسارة رمزية الموقف التاريخي.

ولهذا يُقرأ خطاب تبون – الذي وُجّه أمام القادة العسكريين أنفسهم – على أنه رسالة داخلية قبل أن تكون خارجية، تمهّد لتغيير تدريجي في الموقف الرسمي، دون أن تُحدث صدامًا مع المؤسسة العسكرية.

الوساطة الأمريكية… ودلالات التوقيت

تزامن الخطاب مع تسريبات عن وساطة أمريكية نشطة بين الجزائر والمغرب، تهدف إلى تهيئة المناخ لتقارب سياسي ودبلوماسي يُسهم في تهدئة المنطقة، خاصة بعد تصاعد القلق الدولي من هشاشة الوضع الأمني في الساحل الإفريقي.

واشنطن التي أعلنت منذ عام 2020 دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، تضغط اليوم لإقناع الجزائر بقبول هذه المبادرة كإطار عملي للحل.

ويرى مراقبون أن الخطاب الجزائري الجديد قد يكون استجابة غير مباشرة لهذه الجهود الأمريكية، في سياق اختبار للرأي الداخلي وردود الفعل قبل أي خطوة رسمية.

الموقف الروسي.. وتنوّع العلاقات

في المقابل، بدأت موسكو، الحليف التقليدي للجزائر، تتبنّى موقفًا أكثر توازنًا في الملف الصحراوي، إذ تحدّثت عن “حل واقعي ومتوافق عليه”، وهي لغة تقترب من الصياغة المغربية.

وهنا تبرز حاجة الجزائر إلى قراءة هذا الموقف الروسي بعين استراتيجية، فروسيا لم تعد ترغب في الاصطفاف الكامل إلى جانب الجزائر، بل تسعى إلى تنويع علاقاتها في المنطقة، خاصة مع المغرب الذي يشكّل منفذًا اقتصاديًا نحو إفريقيا وأوروبا.

وبذلك، فإن على الجزائر أن تتعامل بمرونة مع هذا التحول الروسي، وأن تدرك أن الحفاظ على ثوابتها لا يعني الانغلاق، بل الانفتاح المتوازن على شركاء جدد، وفي مقدمتهم المغرب.

بوادر تحوّل في الرؤية الجزائرية

في حال كانت تصريحات تبون تمهيدًا فعليًا لتغيير الموقف، فإن ذلك سيُعدّ تحولًا نوعيًا في السياسة الجزائرية الخارجية، يهدف إلى التكيّف مع الواقع الدولي بدل مقاومته.

فالجزائر تدرك أن المرحلة الحالية تفرض رؤية جديدة في التعامل مع الملفات الإقليمية، بعيدًا عن منطق الصدام الدائم.

وقد يعيد هذا المشهد إلى الأذهان فترة الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1988، حين شهدت العلاقات مع المغرب انفراجًا وُصف حينها بالواقعي والبراغماتي، قبل أن تعود إلى التوتر لاحقًا.

مكاسب محتملة لتسوية الخلاف

تسوية النزاع ستعود بالنفع على البلدين والمنطقة المغاربية ككل، من خلال:

  • فتح الحدود المغلقة منذ 1994 واستئناف التبادل التجاري.
  • تفعيل التعاون الأمني والاقتصادي في ظل تهديدات الإرهاب والهجرة غير النظامية.
  • إنعاش الاتحاد المغاربي كمشروع إقليمي مؤجل منذ عقود.
  • تعزيز التكامل الاجتماعي بين سكان المناطق الحدودية الذين تجمعهم روابط عائلية وتاريخية.
  • السيناريوهات المحتملة

وتبقى الأمور أمام عدة احتمالات:

1. جدية الرئيس تبون مقابل موقف الجيش:

يحتاج المشهد إلى موقف جزائري واضح يبيّن ما إذا كان خطاب تبون أمام قيادات الجيش تمهيدًا لتغيير الموقف التاريخي، أم مجرد تصريح دبلوماسي لا يمس الثوابت، في وقت لا يزال فيه موقف الجيش غير واضح تمامًا، وهو الفاعل الأكبر في رسم السياسة الخارجية.

2. التهدئة وفتح قنوات تواصل:

قد يكون المسار الحالي بداية لفتح حوار رسمي وغير رسمي بين الجزائر والمغرب، تمهيدًا لتخفيف التوتر وإعادة بناء الثقة تدريجيًا.

وفي هذا السياق، يبرز الدور الأمريكي كوسيط يسعى لتهيئة الظروف لتقارب سياسي ودبلوماسي، بينما موقف روسيا المتوازن ودعمها لمقترح الحكم الذاتي يعزز من فرص التوصل إلى حل عملي، دون أن تفقد الجزائر ثوابتها التاريخية.

ولا يمكن الاكتفاء باعتبار ما صدر حديثًا مجرد خطاب سياسي عابر، خاصة في ملف تشددت فيه الجزائر لعقود، إذ يشير الوقت الحالي إلى إمكانية تحولات حقيقية أو على الأقل اختبار واقع جديد يوازن بين الثوابت التاريخية والضرورات الإقليمية والدولية.

 الفرصة الآن أمام الجزائر والمغرب لإعادة كتابة صفحة جديدة من التعاون، قبل أن تزداد الحسابات القديمة تعقيدًا.

في نهاية المطاف، يدرك كل من الجزائر والمغرب جيدًا مصالحه وما يجب أن يكون عليه الموقف في ظل المتغيرات الأمنية والجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم.

وبالذات الجزائر، التي تنطلق من مخاوفها الاستراتيجية المرتبطة بأمنها الإقليمي ووحدة مجالها الحيوي، في حين يعتبر المغرب أن قضية الصحراء جزء لا يتجزأ من سيادته الوطنية، مدعومًا في ذلك بمواقف دولية مؤثرة أبرزها الدعم الأمريكي والروسي والصيني.

وبين هذين الموقفين، تبقى المنطقة أمام لحظة حاسمة قد تحدد مستقبل العلاقات المغاربية برمتها، إما نحو مزيد من التباعد أو نحو بوادر تسوية تحفظ مصالح الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى