
بعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فهذه الحرب لم تعد صراعًا ثنائيًا بين أوكرانيا وروسيا، بل تحولت إلى مواجهة دولية معقدة يشارك فيها الاتحاد الأوروبي والناتو بشكل مباشر وغير مباشر، حيث أصبح الدعم الأوروبي والأمريكي حجر الزاوية في استمرار النزاع.
الناتو وأوروبا: الدعم مقابل المصالح
لا يخوض الجيش الأوكراني الحرب بمعزل عن الدعم اللوجستي والميداني الأوروبي، ما يعكس مشاركة فعلية للناتو في النزاع. هذا الدعم يستند إلى مبرر حماية أوروبا من “التمدد الروسي”، إلا أن جدية هذا الموقف موضع تساؤل، خصوصًا في ظل مصالح أوروبا الاقتصادية والسياسية المتشابكة مع روسيا.
بريطانيا تتبنى موقفًا متشددًا وعدائيًا ضد موسكو، لكنها تواجه قيودًا اقتصادية وسياسية قد تحد من قدرتها على الاستمرار بالدعم طويل المدى. فرنسا وألمانيا تواجهان ضغوطًا داخلية: الأولى في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة، والثانية كانت شريكًا اقتصاديًا لروسيا لعقود، ما يجعل موقفهما الحالي غير مستقر. كما تظهر معارضة دول مثل المجر وسلوفاكيا، التي ترتبط مصالحها بالقومي الروسي، إضافة إلى صعود أحزاب يمينية في دول أوروبية قد يعيد تشكيل سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الحرب.
يبقى التساؤل: هل أوروبا صادقة في مخاوفها من التمدد الروسي، أم أنها تستخدم النزاع لأهداف استراتيجية تجارية وسياسية؟ وهل تستطيع الاستمرار في الدعم في ظل استفادة واشنطن من “فاتورة الحرب” عبر بيع الأسلحة والطاقة، بينما مصلحة أمريكا الفعلية في إنهاء الحرب تبقى مشكوكًا فيها؟
الولايات المتحدة: مصالح متناقضة
تعهد ترامب سابقًا بمحاولة إنهاء الحرب، وشهدت السنوات الأخيرة محاولات دبلوماسية متعددة، منها لقاء ألاسكا والاقتراح بقمة بودابست، إلا أن هذه المحاولات اصطدمت بمطالب روسية رفضتها أوكرانيا بدعم غربي، ما أفرغها من فعاليتها. موقف ترامب المتذبذب، بين تهديده بتزويد أوكرانيا بصواريخ توما هوك ثم التراجع بعد لقاء زيلنسكي، يعكس سياسة أمريكية قائمة على المزاجية والمصالح المباشرة. العقوبات الأخيرة على قطاع الطاقة الروسي جاءت في هذا السياق ذاته، مؤشراً على أن إدارة ترامب تبحث دائمًا عن المردود الاقتصادي والسياسي قبل أي حل حقيقي.
مآلات الحرب: استنزاف الجميع
أوكرانيا فقدت أجزاء كبيرة من أراضيها وبنيتها التحتية، وتعاني ضغوطًا اقتصادية واجتماعية هائلة، بينما أوروبا نفسها مثقلة بالضغوط المالية والسياسية للدعم المستمر. روسيا، من جانبها، تعتبر الحرب مسألة أمن قومي ودفاع عن مكانتها كقوة كبرى، وتصر على الاحتفاظ بالمناطق التي سيطرت عليها، بما فيها القرم. هذا التعقيد يجعل أي حل سياسي معقدًا، خاصة مع استمرار تدخل الناتو بشكل غير مباشر في العمليات العسكرية.
تمارين روسيا الصاروخية والنووية الأخيرة تحت إشراف بوتين ترسل رسالة واضحة: موسكو دولة قوية ومستعدة للدفاع عن نفسها، وأن أي استفزاز إضافي قد يرفع تكلفة النزاع إلى مستويات أعلى.
بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب، يسعى دونالد ترامب لإنهائها سريعًا لتسجيل نصر سياسي، بينما يتضح تفوق روسيا العسكري والاقتصادي مقابل هشاشة النفوذ الغربي. تحت ضغط شديد، تواجه أوكرانيا وأوروبا واقعًا جديدًا، ويرى بعض المحليين أن الاعتراف بموسكو كلاعب رئيسي أصبح أمرًا لا مفر منه، ما يمهد لصياغة مرحلة دولية براغماتية جديدة تقوم على إيجاد صيغة جديدة للتعامل مع روسيا، والاعتراف بمخاوفها من توسع حلف الناتو، وفتح آفاق للتعاون وخلق توازن استراتيجي أكثر وضوحًا في المنطقة.



