ليبيا

جرائم العنف الأسري تفجر جدلاً واسعاً في ليبيا وسط تصاعد السلاح

مأساة بنغازي تعيد فتح ملف غياب التشريعات وحماية الأسرة الليبية

ليبيا 24

تصاعد القلق من جرائم العنف الأسري في ليبيا

أثارت واقعة مأساوية في مدينة بنغازي، قُتل فيها سبعة أطفال على يد والدهم قبل أن يضع حداً لحياته، موجةً واسعة من الحزن والجدل داخل ليبيا، وفتحت مجدداً ملف العنف الأسري وانتشار السلاح في المجتمع الليبي، الذي لا يزال يعاني من تداعيات عقدٍ من الفوضى والانقسام السياسي.
السلطات الأمنية في بنغازي باشرت تحقيقاتها لمعرفة الملابسات الدقيقة للحادث، وسط تباين في الروايات بين تأكيد مديرية الأمن أن الجريمة ارتكبها الأب قبل انتحاره، وتشكيك بعض النشطاء والمنظمات الحقوقية في الرواية الرسمية، مرجحين فرضية وجود شبهة جنائية.
ومع انتشار صور ومقاطع مؤلمة للحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي، تجددت الدعوات إلى وضع حدٍ لفوضى السلاح، وتبني تشريعات تحمي المرأة والطفل من العنف داخل الأسرة، في ظل غياب منظومة موحدة للردع والوقاية.

خبراء: العنف نتاج الفوضى السياسية والانقسام الأمني

يرى مستشار الأمن القومي الأسبق، إبراهيم بوشناف، أن ما حدث في بنغازي لا يمكن فصله عن تراكمات الفوضى التي عاشتها البلاد منذ عام 2011، مؤكداً أن «جرائم العنف المجتمعي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما شهدته ليبيا من انهيار مؤسسات الدولة وانتشار السلاح».
ويضيف بوشناف أن «تداعيات الصراع الطويل تركت آثاراً نفسية واجتماعية عميقة في سلوك الأفراد»، مشدداً على أن غياب مؤسسة أمنية موحدة أفسح المجال أمام تفشي الجريمة، ودعا في الوقت نفسه إلى تغليظ العقوبات على حيازة السلاح دون ترخيص، وضرورة الإسراع في توحيد المؤسسات الأمنية ضمن مشروع وطني شامل.
ويعتبر بوشناف أن الحادثة، رغم طابعها الفردي، تمثل «ناقوس خطر» يذكّر بخطورة استمرار السلاح خارج سلطة الدولة، لافتاً إلى أن «الفرد المسلح بات قادراً على ارتكاب جرائم مروعة خلال لحظات انفعال عابر».

التكبالي: انتشار السلاح وضعف الردع يغذيان العنف الأسري

من جانبه، يؤكد عضو لجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس النواب الليبي، علي التكبالي، أن «العنف الأسري في ليبيا تضاعف مع تفشي السلاح بين المدنيين»، موضحاً أن «ضعف تطبيق القانون وتكرار الإفلات من العقاب زادا من جرأة الجناة».
ويحذر التكبالي من أن غياب التنسيق بين الأجهزة الأمنية شرقاً وغرباً سهّل عمليات الهروب بعد ارتكاب الجرائم، سواء إلى مناطق أخرى داخل البلاد أو خارجها، مشيراً إلى أن بعض الجناة يتمتعون بحماية أو نفوذ اجتماعي يمنع ملاحقتهم.
وأضاف أن الانقسام السياسي لا يقتصر تأثيره على البنية المؤسسية للأمن، بل يمتد إلى ضعف الاهتمام بالدراسات الاجتماعية التي توثق نسب العنف الأسري وأسبابه، موضحاً أن «الكثير من عناصر الأمن تفتقر إلى التدريب اللازم للتعامل مع هذا النوع من الجرائم، وغالباً لا تتحرك الأجهزة إلا بعد وقوع الكارثة».

قبيلة الزوي: دوافع نفسية وراء الجريمة

من جهتها، دعمت قبيلة الزوي، التي ينتمي إليها الجاني، الرواية الأمنية التي تفيد بأن الأب كان يعاني اكتئاباً حاداً بعد طلاقه، ما دفعه إلى اللجوء إلى أساليب غير علمية للعلاج، مثل السحر والشعوذة.
ويشير مقربون من العائلة إلى أن الأب، حسن الزوي، كان يعيش عزلة نفسية خلال الأشهر الأخيرة، وسط صعوبات مالية واضطرابات أسرية، ما جعله يفقد التوازن العقلي والنفسي قبل ارتكاب الجريمة.
ورغم هذه التبريرات، يرفض كثير من الحقوقيين حصر القضية في بعدها الفردي، معتبرين أنها تعكس هشاشة البنية الاجتماعية وغياب شبكات الدعم النفسي والاجتماعي للأسر المتضررة.

المنظمات الحقوقية: انتشار السلاح تهديد دائم للأمن المجتمعي

يرى الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليبيا، الدكتور عبد المنعم الحر، أن مأساة بنغازي «تمثل صدمة كبيرة للمجتمع الليبي، وتكشف خطورة السلاح الفردي المنفلت».
وقال إن المنظمة رصدت قبل الحادثة سقوط 18 ضحية في مدينة الزاوية خلال اشتباكات جرت بالسلاح الفردي، معتبراً أن «تلك الوقائع تؤكد اتساع دائرة الخطر».
ودعا الحر إلى «تأسيس شبكة إلكترونية حديثة تتيح مراقبة الأمن العام وتركيب كاميرات في الشوارع»، إضافة إلى «تفعيل العقوبات الرادعة ضد كل من يهدد أمن الأسرة والمجتمع».
كما شدد على أهمية برامج التوعية الاجتماعية، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والأجهزة الأمنية، مشيراً إلى أن الإصلاح القانوني وحده لا يكفي ما لم ترافقه معالجة للأزمات الاقتصادية والنفسية التي تغذي العنف داخل البيوت.

بوقعيقيص: المرأة والطفل يدفعان الثمن

من جانبها، حذرت عضوة ملتقى الحوار السياسي الليبي آمال بوقعيقيص من أن «الشرائح الضعيفة في المجتمع، وعلى رأسها النساء والأطفال، تدفع أثمان العنف الأسري بصمت مؤلم».
وأشارت إلى أن القوانين الليبية الحالية تركز على حق المرأة في العمل، لكنها «تهمل حمايتها من العنف الأسري، ولا توفر للأطفال آليات نجدة فعالة مثل الخطوط الساخنة أو مراكز الحماية».
وانتقدت بوقعيقيص غياب قانون واضح لمكافحة العنف ضد المرأة، لافتة إلى أن القبيلة كثيراً ما تتدخل لحماية الزوج المعتدي، بينما تُقنع أسرة الزوجة بالتنازل عن الشكوى خشية العار أو الطلاق.
وأضافت أن المؤسسات التعليمية تفتقر إلى الأخصائيين النفسيين الفاعلين، إذ ينشغل بعضهم بمراقبة الزي بدلاً من متابعة المؤشرات السلوكية الدالة على تعرض الأطفال للعنف.
وختمت بقولها إن «تجاهل هذه المؤشرات يحوّل المدارس من بيئة آمنة إلى فضاءٍ صامتٍ يخفي الألم، بينما تتفاقم الجرائم في الظل».

الطبلقي: ضرورة مراجعة القوانين وتشديد العقوبات

بدورها، وصفت عضوة مجلس النواب الليبي عائشة الطبلقي الجريمة بأنها «ناقوس خطر يستدعي تدخلاً عاجلاً من الدولة والمجتمع».
وأكدت أن لجنة الشؤون الاجتماعية في البرلمان دعت إلى إعادة النظر في التشريعات المتعلقة بالعنف الأسري، وتشديد العقوبات على مرتكبيه، فضلاً عن إجراء دراسات معمقة لأسباب تصاعد هذه الجرائم.
وقالت الطبلقي إن الحادثة «قد تكون نتيجة خلافات أسرية متجذّرة أو محاولة انتقام من الزوجة عبر إيذاء الأبناء، وربما بسبب إدمان المخدرات»، مؤكدة أن «تعدد الأسباب لا يغير من حقيقة أن هناك خللاً عميقاً في منظومة الردع والحماية».

تراجع الجريمة رسمياً… وتصاعد المخاوف اجتماعياً

على الرغم من إعلان وزير الداخلية في حكومة أسامة حماد، عصام أبو زريبة، مطلع العام الجاري عن انخفاض معدل الجريمة بنسبة 44 في المائة مقارنة بالعامين الماضيين، إلا أن الشارع الليبي لا يشعر بتحسن موازٍ في الأمن المجتمعي.
ويرى مراقبون أن الإحصاءات الرسمية لا تعكس بالضرورة حجم الجرائم غير المعلنة أو تلك التي تُسوى عرفياً دون تسجيل، خصوصاً في المناطق التي تهيمن عليها الأعراف القبلية.
ويحذر خبراء من أن استمرار التفاوت بين المؤشرات الحكومية والشعور الشعبي بالأمن قد يزيد من فقدان الثقة في المؤسسات، ما يفتح الباب أمام مزيد من التوترات والعنف.

الحاجة إلى مشروع وطني شامل لحماية الأسرة

يجمع أغلب الخبراء والمختصين على أن مأساة بنغازي ليست مجرد حادثة فردية، بل مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بغياب سياسة اجتماعية وأمنية موحدة.
وتبرز الدعوات إلى إطلاق مشروع وطني لمواجهة العنف الأسري، يدمج بين التوعية القانونية والإصلاح الاجتماعي، ويرسخ قيم التكافل والمسؤولية المشتركة.
كما يوصي مختصون بإدماج برامج الصحة النفسية في المدارس والمراكز الاجتماعية، وإنشاء مراكز استقبال متخصصة لضحايا العنف الأسري، وتفعيل دور الإعلام في نشر ثقافة التسامح والحوار داخل الأسرة.

بين الألم والتحذير… مأساة تتكرر بصور مختلفة

تظل جريمة بنغازي جرس إنذارٍ صارخ يذكّر الليبيين بضرورة مواجهة ظاهرة العنف الأسري بكل أبعادها، القانونية والاجتماعية والنفسية.
وبينما يطالب المواطنون بفرض رقابة صارمة على تداول السلاح وتوحيد الأجهزة الأمنية، يؤكد الحقوقيون أن العدالة وحدها لا تكفي، ما لم يُرافقها تغيير في الوعي الجمعي وإصلاح في بنية القيم المجتمعية التي تسكت عن العنف وتبرره أحياناً.
وفي بلدٍ أنهكته الانقسامات السياسية، تبدو حماية الأسرة الليبية مهمةً لا تقل أهمية عن حماية الحدود، إذ لا استقرار لوطنٍ تُمزّق فيه الروابط الأسرية تحت وطأة الغضب واليأس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى