الغرياني يفتح النار على الدبيبة ويهدد بتحالف بديل
انهيار تحالف الدبيبة والغرياني يكشف عمق الصراع
ليبيا 24:
انقسام داخل المعسكر الواحد
تشهد الساحة السياسية في طرابلس واحدة من أكثر فصولها توتراً، بعدما تفجرت الخلافات على نحو غير مسبوق بين رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، والمفتي المعزول الصادق الغرياني، الذي لطالما مثّل الغطاء الديني والسياسي الأهم لحكومة الدبيبة في مواجهة خصومها من الشرق والغرب على السواء.
هذا التباعد الجديد بين الرجلين لا يُعد مجرد خلاف عابر حول ملفات مالية أو إدارية، بل يعكس تحوّلاً عميقاً في موازين القوى داخل التحالف الذي ظل لسنوات يمسك بمفاصل القرار داخل طرابلس.
تحالف الضرورة يتحول إلى عبء سياسي
منذ صعود الدبيبة إلى رئاسة الحكومة عام 2021، لعب الغرياني دوراً محورياً في تبرير استمرار الحكومة ورفض أي مسار سياسي بديل، مستخدماً منابر دينية وإعلامية لتكريس شرعية الأمر الواقع.
لكن هذا التحالف كان قائماً على منطق “المصلحة المتبادلة”، فالدبيبة احتاج فتاوى الغرياني ودعمه الرمزي لضمان ولاء التيارات السياسية، بينما وجد المفتي المعزول في حكومة الدبيبة مصدراً مالياً وسياسياً يعيد له الحضور بعد عزله من قبل مجلس النواب.
ومع مرور الوقت، تحوّل هذا التحالف من ورقة ضغط بيد الطرفين إلى عبء متبادل؛ فكل طرف بات يتوجس من الآخر، ويخشى أن يستخدمه حيناً ويتخلى عنه حيناً آخر.
انفجار الخلافات: من سجن معيتيقة إلى منابر الخطاب
القشة التي قصمت ظهر التحالف تمثلت في مطالبة الغرياني العلنية بالإفراج عن 56 موقوفاً في سجن معيتيقة، بدعوى أنهم “أبرياء”، فيما تؤكد تقارير جهاز الردع أنهم متهمون بالارتباط بتنظيمي “داعش” و”القاعدة”.
هذه المطالبة فُهمت في أوساط أمنية بأنها تدخل مباشر من الغرياني في ملفات حساسة تمس الأمن القومي، بل محاولة لاستعادة نفوذ التيار المتشدد في العاصمة عبر الضغط على حكومة الدبيبة.
الرد الرسمي لم يصدر عن الحكومة بشكل واضح، لكن دوائر داخلية مقربة من الدبيبة أكدت امتعاضه من “ابتزاز ديني مفضوح”، معتبرة أن المفتي المعزول يحاول فرض أجندته على الحكومة مقابل استمرار دعمه السياسي.
فتور متصاعد وتحول علني في المواقف
تدهورت العلاقة تدريجياً منذ حادثة رفض الغرياني مصافحة الدبيبة في مناسبة اجتماعية عام 2022، في مشهد التُقطت صوره وتداولها الليبيون على نطاق واسع، واعتُبر وقتها إشارة رمزية على بداية القطيعة.
لاحقاً، صعّد الغرياني لهجته ضد رئيس الحكومة، فوصفه بأنه “الحلقة الأضعف” في المشهد السياسي، واتهمه بالعجز عن اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بالحرب أو السلم.
هذا التصعيد لم يكن عفوياً، إذ جاء متزامناً مع تزايد ضغوط أميركية وأممية على حكومة الدبيبة لإبعاد العناصر المتشددة من المؤسسات الأمنية والمالية، وهو ما اعتبره الغرياني تهديداً مباشراً لنفوذ تياره داخل الدولة.
الابتزاز المتبادل… وجه آخر للتحالف
يرى مراقبون أن العلاقة بين الدبيبة والغرياني لم تكن يوماً قائمة على الثقة أو التوافق الأيديولوجي، بل على “الابتزاز المتبادل”.
الغرياني منح الدبيبة غطاءً شرعياً يضفي على حكومته صبغة دينية، مقابل تمويل سخي لدار الإفتاء وتمكين سياسي في مؤسسات الدولة.
لكن مع تضييق الخناق الدولي على تمويل الجماعات المتشددة وظهور مؤشرات على مراجعة المجتمع الدولي لموقفه من الدبيبة، بدأ الأخير يُقلّص مساحة الدعم المالي والسياسي للمفتي المعزول، ما أثار غضبه ودفعه إلى التحريض العلني ضده.
تداعيات الخلاف على ميزان القوى في طرابلس
يمتلك الغرياني تأثيراً مباشراً على عدد من الكتائب والميليشيات المحسوبة على التيار المتشدد في غرب ليبيا، لا سيما في طرابلس ومصراتة والزاوية.
وبحسب مراقبين ميدانيين، فإن فقدان الدبيبة دعم الغرياني قد يعني انشقاق بعض المجموعات المسلحة التي كانت تُعتبر جزءاً من منظومة حمايته، الأمر الذي يضعف قدرته على ضبط المشهد الأمني في العاصمة.
كما أن التباعد بين الطرفين قد يفتح الباب أمام اصطفافات جديدة داخل المعسكر الغربي، وربما يسهم في تقارب بين بعض التيارات وحكومة الاستقرار بقيادة فتحي باشاغا أو حتى المجلس الرئاسي، في إطار إعادة ترتيب المشهد لمواجهة المرحلة المقبلة.
ارتباك في موقف الدبيبة ومحاولة احتواء الأزمة
حتى الآن، يحاول الدبيبة احتواء الأزمة بصمت، مفضلاً عدم التصعيد الإعلامي مع المفتي المعزول.
مصادر مقربة من حكومته تشير إلى أن الأخير يسعى لتقليل الأضرار عبر وسطاء من مصراتة وطرابلس لتهدئة الغرياني وتحييده، خوفاً من انقلابه الكامل عليه.
لكن مراقبين يرون أن العلاقة بين الطرفين بلغت نقطة اللاعودة، خاصة بعد أن تحوّل الخلاف إلى صراع علني حول النفوذ والشرعية الدينية والسياسية.
المشهد القادم: انحسار أم إعادة تموضع؟
يرى محللون أن تفكك التحالف بين الدبيبة والغرياني يمثل بداية مرحلة جديدة من إعادة التموضع داخل التيار في ليبيا، الذي يعيش حالة انقسام حاد بين جناح براغماتي يسعى للبقاء ضمن العملية السياسية، وآخر متشدد يرفض أي تسوية مع القوى المناوئة في الشرق أو الغرب.
هذا التحول، بحسب بعض التقديرات، قد يؤدي إلى انكماش نفوذ التيارات المتشددة داخل مؤسسات الدولة، خصوصاً إذا استغل خصوم الدبيبة هذه اللحظة لتوسيع دائرة الضغط المحلي والدولي عليه.
تداعيات على الحراك الشعبي والسياسي
تزامن الخلاف مع تصاعد حالة السخط الشعبي ضد حكومة الدبيبة، التي تواجه اتهامات بالفساد وسوء الإدارة وغياب الخدمات.
ويخشى مراقبون أن يؤدي انقسام المعسكر المتشدد إلى تفاقم التوترات الميدانية في طرابلس، خصوصاً في ظل انتشار واسع للتشكيلات المسلحة، ما قد يمهد لجولة جديدة من التصعيد الأمني إذا فشلت الأطراف في احتواء التوتر.
مرحلة ما بعد التحالف
في المحصلة، يبدو أن التحالف الذي جمع الدبيبة والغرياني لم يكن سوى تقاطع مصالح مؤقت سرعان ما تفكك تحت ضغط الطموحات المتعارضة والمصالح المتبدلة.
فالمفتي المعزول يسعى إلى استعادة دوره التاريخي كمرجعية مطلقة للتيار، بينما يحاول الدبيبة الحفاظ على توازنه في معادلة داخلية ودولية متشابكة، يدرك أن بقاءه فيها مرتبط بقدرته على تفكيك نفوذ التيار المحسوب على الغرياني دون مواجهة مباشرة معه.
لكن المؤكد أن ما يجري اليوم في طرابلس ليس مجرد خلاف بين شخصين، بل بداية تصدع في جدار تحالف لطالما كان يملك اليد العليا في القرار السياسي والأمني لطرابلس.



