ليبيا

فشل منظومة الصرف الصحي.. الآبار السوداء جريمة بيئية تهدد صحة الليبيين ومخزونهم المائي

طرابلس وعدد من المدن الكبرى تشهد تفاقمًا خطيرًا في أزمة الصرف الصحي

تشهد طرابلس وعدد من المدن الكبرى تفاقمًا خطيرًا في أزمة الصرف الصحي، بعد أن تحولت الآبار السوداء إلى الحل الوحيد لتصريف مياه الصرف في ظل تعطل شبكات البنية التحتية، ما أدى إلى كوارث بيئية وصحية تهدد حياة المواطنين والمياه الجوفية والثروة البحرية على حد سواء.

كارثة تتكشف تحت جسر قرقارش

تتدافع يوميًا عشرات الصهاريج المحملة بمياه الصرف الصحي الملوثة إلى مجمع تصريف مياه الأمطار تحت جسر طريق قرقارش غرب طرابلس، لتفرغ حمولتها على بعد أمتار قليلة من البحر، في مشهد عبثي يكشف عمق الانهيار البيئي. هذه الممارسات، التي تتم أحيانًا بعلم بعض الجهات المحلية، تسببت في انتشار الروائح الكريهة والحشرات والأمراض الجلدية في المنطقة المكتظة بالسكان.

شبكات منهارة وآبار ملوثة

تنتشر الآبار السوداء منذ عقود في ضواحي طرابلس والمدن الليبية كافة بسبب غياب منظومات الصرف الصحي، إلا أن عددها تضاعف خلال العقدين الأخيرين بفعل النمو السكاني والبناء العشوائي غير المنظم.

ويحذر محمد الغويل، الرئيس السابق للجنة تأسيس الشركة العامة للمياه والصرف الصحي، من أن تلوث المياه الجوفية بمياه المجاري يمثل أحد أخطر أنواع التلوث، لأن الخزان الجوفي غير متجدد وتنقيته شبه مستحيلة.

وأوضح الغويل أن تآكل أنابيب الصرف وعدم الصيانة الدورية أدّيا إلى تسرب المياه الملوثة إلى الطرق والأحياء، مسببة مستنقعات وانتشار أمراض، خاصة بين الأطفال. كما أشار إلى أن شبكات تصريف مياه الأمطار ليست مصممة لاستقبال مياه المجاري، إلا أن أصحاب الصهاريج الخاصة ينتهكون القوانين بتفريغ حمولاتهم فيها، ما يؤدي إلى تلويث المياه السطحية والبحرية.

زليتن نموذجًا للتحذير

يشير المتخصص في علم الهيدرولوجيا عبد الجواد بوبيضة إلى أن مدينة زليتن تواجه خطرًا مضاعفًا نتيجة غياب منظومة صرف صحي متكاملة، حيث تتسرب مياه الصرف من الآبار التقليدية إلى المياه الجوفية، ثم إلى البحر. ويؤكد أن العديد من المواطنين يستخدمون مياه العيون الملوثة دون وعي بخطرها الصحي.

تلوث البحر.. خطر على المصطافين

أطلقت هيئة السلامة وبلدية طرابلس تحذيرات متكررة من السباحة في الشواطئ القريبة من طرابلس بسبب تلوثها بمياه الصرف، ما تسبب في ارتفاع حالات الطفح والتهابات الجلد بعد ان سجلت هذا الصيف زيادة ملحوظة في الإصابات الجلدية بين مرتادي البحر، مؤكدة أن مياه الشواطئ أصبحت غير صالحة للسباحة وتشكل خطرًا على الصحة العامة.

انهيار البنية التحتية وتداعياته

تشير التقارير الرسمية إلى أن ليبيا تمتلك 62 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، معظمها معطل منذ عام 2011، وأن انهيار الشبكات القديمة التي تعود إلى فترة الاستعمار الإيطالي أدى إلى تصريف كميات هائلة من المياه غير المعالجة إلى البحر والتربة.

وحذر الخبراء من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى تلوث المياه الجوفية وتدهور التربة وانتشار الأمراض وهبوط الأراضي وتشقق المباني، خاصة في المدن الساحلية المكتظة.

نداء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

يجمع المختصون على أن إنقاذ ليبيا من هذه الكارثة يتطلب إطلاق مشروع وطني لإعادة تأهيل شبكات الصرف الصحي وإنشاء محطات معالجة حديثة على غرار محطة الهضبة في طرابلس، لتوجيه المياه المعالجة نحو الاستخدام الزراعي، بدلًا من تلويث البحر والمياه الجوفية.

كما دعا الخبراء إلى سنّ تشريعات صارمة لمنع تفريغ مياه الصرف في مجاري الأمطار، وتغليظ العقوبات على المخالفين، إلى جانب خطة وطنية لإدارة المياه تشمل شبكات الشرب والكهرباء ضمن بنية تحتية متكاملة.

تبدو أزمة الصرف الصحي في ليبيا أكثر من مجرد مشكلة فنية؛ إنها جريمة بيئية وإنسانية تتفاقم بصمت، بينما تتآكل موارد البلاد المائية تحت الأرض وتختنق سواحلها بالمخلفات فوقها. فهل تتحرك الجهات المسؤولة قبل أن يتحول التلوث إلى وباء يصعب احتواؤه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى