الحكومة الليبية ترفض “مايسمي بهيئة الرئاسات” وتلوح بالحكم الذاتي
أزمة دستورية في ليبيا بعد إعلان هيئة تنسيقية بين المؤسسات المنتهية
ليبيا 24:
يشهد المشهد السياسي تصعيداً غير مسبوق في ظل الإعلان عن تشكيل “الهيئة العليا للرئاسات” من قبل المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي والحكومة منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة والمجلس الأعلى للدولة، برئاسة تكالة فيما تواجه هذه الخطوة رفضاً قاطعاً من الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد، التي وصفتها بالانعدام الدستوري والتهديد المباشر لوحدة الدولة الليبية.
خلفية الأزمة الدستورية
تعود جذور الأزمة الحالية إلى الانقسام السياسي الذي تعيشه ليبيا منذ عام 2014، حيث تشهد البلاد تعدداً في مراكز القوى بين حكومتين، واحدة في الشرق مكلفة من مجلس النواب، وأخرى في الغرب منتهية الولاية تدعمها ميليشيات مسلحة.
وقد تفاقم هذا الانقسام بعد فشل العملية الانتخابية المقررة أواخر العام الماضي، وامتداد ولاية الأجسام السياسية لبعد المدد الدستورية المقررة.
ويعتبر المراقبون أن الإعلان عن تشكيل الهيئة العليا للرئاسات يمثل محاولة من الأجسام المنتهية ولايتها لإضفاء شرعية جديدة على وجودها، في وقت تشهد فيه البلاد مفاوضات مكثفة تحت رعاية الأمم المتحدة للخروج من الأزمة السياسية عبر إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية.
رفض دستوري قاطع
من جهتها، أعلنت الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد في بيان رسمي رفضها المطلق لتشكيل هذه الهيئة، معتبرة أنها “تجاوز صارخ للصلاحيات الدستورية”.
وأكد البيان أن “الإعلان الدستوري وتعديلاته بصفته المرجعية الأعلى لتنظيم السلطة، قد حصر اختصاص إنشاء الهيئات السيادية وتعديل البنية القيادية للدولة في السلطة التشريعية المنتخبة حصرياً”.
وأضاف البيان أن “هذه الخطوة تهدد وحدة الدولة وتمس استقرارها المؤسسي، وتعد سلوكاً معطلاً للمسار الانتخابي وافتعالاً لأزمة دستورية خارج القانون”، محذراً من أن “خيار المطالبة بالحكم الذاتي سيكون خياراً مطروحاً بصورة واضحة وعاجل” في حال استمرار الانسداد السياسي.
مواقف النواب والسياسيين
انتقادات حادة من مجلس النواب
عضو مجلس النواب سعيد امغيب وصف الإعلان عن تأسيس “الهيئة العليا للرئاسات” بأنه “ابتداع سياسي خارج إطار الشرعية الدستورية والقانونية”، معتبراً الخطوة “محاولة بائسة لإضفاء طابع رسمي على أجسام منتهية الولاية فاقدة للشرعية ومرتهنة للأجنبي”.
وأوضح امغيب في تصريحاته أن “هذا الاجتماع يكشف حجم التخبط والارتباك لدى من يحاولون إعادة إنتاج أنفسهم تحت شعارات زائفة لم تعد تقنع أحداً”، مشيراً إلى أن ما أسماه “التحالف المرتجل العبثي” لا يعبر عن إرادة الليبيين، بل يخدم أجندات خارجية تسعى للهيمنة على القرار الوطني لأطول فترة ممكنة.
تحليل أكاديمي للمشهد
من جانبه، اعتبر الباحث الأكاديمي والسياسي محمد امطيريد أن قرار إنشاء “الهيئة العليا للرئاسات” يفتقر إلى المشروعية الدستورية، مؤكداً أن “أي قرار يصدر عن المجلس الرئاسي دون الرجوع إلى مجلس النواب يعد بلا سند قانوني وفقاً لاتفاق الصخيرات”.
وأضاف امطيريد في تحليله أن القرار “لا يعدو أن يكون حبراً على ورق”، مشيراً إلى أنه “لا يؤسس لأي جسم شرعي جديد ولا يستند إلى أي إطار قانوني يجيز إنشاء مثل هذه الهيئة”.
وأوضح أن المجلس الرئاسي وحكومة عبدالحميد الدبيبة منتهية الولاية ومجلس الدولة يشكلون ما وصفه بـ”مجالس موازية”، معتبراً أنها “تمارس دوراً انقلابياً على الدولة الليبية من خلال التحكم في المشهد السياسي خارج الإطار التشريعي”.
رؤية نائب برلماني للأزمة
أما عضو مجلس النواب صالح افحيمة فأكد أن “غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المحلية والدولية هو العامل الأساسي في تعميق الأزمة الراهنة”، مشيراً إلى أن “البلاد جاهزة فنياً ولوجستياً لإجراء الانتخابات”.
وأوضح افحيمة في تصريحاته أن “القوانين الانتخابية قابلة للتعديل عند الحاجة، وأن العملية الانتخابية يمكن تنفيذها من الناحية الفنية دون عوائق حقيقية”، مشيراً إلى أن “النقاش الدائر حول القوانين ليس هو جوهر الأزمة”.
انعكاسات على الساحة الدولية
على الصعيد الدولي، تتابع بعثة الأمم المتحدة في ليبيا والجهات الدولية الفاعلة هذه التطورات بقلق واضح. وكانت البعثة قد دعت إلى تجنب أي خطوات من شأنها تعقيد المشهد السياسي وإعاقة المسار الانتخابي.
ويخشى مراقبون أن يؤدي هذا التصعيد إلى مزيد من الانقسام والتصادم بين الأطراف الليبية، مما يعرقل الجهود الدولية الرامية إلى إجراء الانتخابات.
آراء الشارع الليبي
فيما يتعلق برأي الشارع الليبي، تتباين المواقف بين مؤيد ومعارض. ففي طرابلس، يرى المواطن عمران عبد الله أن “هذه الخطوة ضرورية لتوحيد القرار في ظل الظروف الراهنة”، معتبراً أنها “ستسهم في معالجة الانقسام وتوحيد المواقف تجاه القضايا المصيرية”.
بينما يعارض أحمد الزوي من مدينة بنغازي هذه الخطوة، قائلاً: “لا يمكن قبول تشكيل هيئات دون سند قانوني، والأولوية يجب أن تكون للانتخابات التي يعبر فيها الشعب عن إرادته”.
أما فاطمة ناصر من مدينة مصراتة فترى أن “الليبيين تعبوا من الصراعات السياسية ويطمحون إلى تحقيق الاستقرار وتوفير الخدمات الأساسية”، معتبرة أن “الجميع يتحمل مسؤولية الوضع الحالي”.
تداعيات اقتصادية واجتماعية
لا شك أن هذه التطورات السياسية تنعكس سلباً على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. حيث يعاني المواطن الليبي من تردي الخدمات الأساسية وارتفاع الأسعار وتدهور القوة الشركرية.
ويحذر اقتصاديون من أن استمرار الأزمة السياسية سيؤدي إلى مزيد من التدهور في الوضع المعيشي للمواطنين.
ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور خالد أبو القاسم: “الاستقرار السياسي هو الأساس لأي تحسن اقتصادي، وفي ظل استمرار الأزمة السياسية، سيكون من الصعب تحقيق أي تقدم على الصعيد الاقتصادي”.
مستقبل المسار السياسي
تبقى الآفاق المستقبلية للمشهد السياسي الليبي مرهونة بقدرة الأطراف المختلفة على تجاوز خلافاتها والوصول إلى حلول توافقية.
وتزداد أهمية الدور الدولي في ظل هذه الظروف، حيث يمكن للضغوط الدولية المنسقة أن تلعب دوراً محورياً في دفع الأطراف الليبية إلى الحلول السياسية.
ويبقى الشعب الليبي هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، حيث يستمر معاناته اليومية في ظل انشغال النخب السياسية بالصراعات على السلطة.
الانتخابات ضرورة… وخيار الحكم الذاتي مطروح
يطرح بيان الحكومة الليبية لأول مرة بشكل رسمي فكرة “الحكم الذاتي” كخيار في حال استمرار الانسداد السياسي وهذا التصريح يحمل دلالات كبيرة، حيث يشير إلى إمكانية اللجوء إلى خيارات أكثر تطرفاً في حال لم تنجح المسارات السياسية الحالية.
ويحذر محللون سياسيون من أن التلويح بفكرة الحكم الذاتي قد يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيداً، بما في ذلك إمكانية تقسيم البلاد أو الدخول في حرب أهلية جديدة.
الحكومة اختتمت بيانها بالتأكيد على أن المخرج الوحيد من حالة العبث السياسي هو الإسراع بإجراء الانتخابات الرئاسية، وإلا فإن خيار المطالبة بالحكم الذاتي سيصبح مطروحًا بوضوح وبشكل عاجل.
الخلاصة
تمثل الأزمة الحالية اختباراً حقيقياً لمدى نضج النخب السياسية الليبية وقدرتها على تجاوز خلافاتها والوصول إلى حلول تخدم المصلحة الوطنية.
وتزداد الحاجة إلى حوار وطني شامل يضع مصلحة ليبيا فوق كل الاعتبارات، ويؤسس لمرحلة جديدة تقوم على الشرعية الدستورية والإرادة الشعبية.



