بعد رفض هيئة الرئاسات.. صراع ليبيا يحتدم بين الدولة والفساد
الحكومة الليبية تواجه محاولات تقويض المشروعية وتتمسك بالحق الوطني
ليبيا 24:
الحكومة الليبية في مواجهة محور الفساد: معركة الحق والمشروعية تتصدر المشهد الليبي
تعيش ليبيا لحظة فارقة في تاريخها السياسي، لحظة تكشف جوهر الصراع الحقيقي بعيداً عن العناوين المضللة ومحاولات الإيحاء بوجود “نزاع شرعيات”.
فالصورة التي يحاول البعض تصديرها إلى الداخل والخارج لم تعد تقنع أحداً، لأن القاعدة القانونية والفعل المؤسسي والوقائع السياسية الثابتة رسّخت منذ فترة طويلة حقيقة مفادها أن الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب برئاسة الدكتور أسامة حماد هي الحكومة الشرعية القائمة على أساس دستوري واضح.
كل ما يجري اليوم ليس صراعاً بين حكومتين متكافئتين ولا تنافساً بين سلطتين متوازيتين، بل هو، كما باتت قطاعات واسعة من الشعب ترى بوضوح، صراع بين معسكرين مختلفين تماماً: معسكر الدولة والقانون والمشروعية، مقابل معسكر الفساد والمصالح والانتهازية السياسية.
محاولة تشكيل ما يسمى “الهيئة العليا للرئاسات” لم تكن مجرد خطوة سياسية عابرة، بل كانت الشرارة التي كشفت حجم التناقض بين مشروعين متضادين: مشروع الدولة ومشروع إعادة تدوير الأجسام المنتهية.
هيئة بلا سند: إعادة إحياء الأجسام المتآكلة تحت غطاء جديد
الإعلان المفاجئ عن “الهيئة العليا للرئاسات” في طرابلس أثار موجة رفض واسعة، ليس فقط في الشرق، بل أيضاً في مدن عدة داخل الغرب الليبي.
فالخطوة وُصفت بأنها “غطاء جديد لثلاثة أجسام فقدت مشروعيتها”، ومحاولة لتجميع مراكز نفوذ فقدت القدرة على الاستمرار دون مظلة مشتركة.
الاجتماع الذي ضم المجلس الرئاسي، المجلس الأعلى للدولة، ورئيس الحكومة المنتهية الولاية عبدالحميد الدبيبة، جاء في سياق سياسي يعكس تخندقاً دفاعياً من أطراف تخشى فقدان نفوذها مع اقتراب الحديث مجدداً عن الانتخابات.
لذلك قدموا هذا الكيان الجديد باعتباره “سلطة سيادية عليا” قادرة على توحيد القرار الوطني، رغم أن هذه الصلاحية وفق الإعلان الدستوري منحها الليبيون لمجلس النواب حصراً.
من وجهة نظر قانونية، لا يمتلك أي من الأجسام الثلاثة صلاحية استحداث جسم جديد أو تعديل بنية السلطة السيادية ولذلك جاء رفض الحكومة الليبية في الشرق قاطعاً وصريحاً، مؤكدة أن الهيئة “منعدمة دستورياً ولا ترتب أي أثر قانوني”.
لكن موقف الحكومة لم يتوقف عند حدود الطعن القانوني، بل ذهب إلى جوهر القضية وهو أن تشكيل الهيئة يمثل سلوكاً يهدف إلى حماية منظومة فساد مترسخة، ويتجاهل إرادة الشعب المتطلّع لانتخابات تنهي المرحلة الانتقالية.
حماد: موقف حاسم يعكس ثقة بالمشروعية الدستورية
الحكومة الليبية لم تكتفِ بمخاطبة الداخل، بل وجهت رسائل صريحة للمجتمع الدولي بأن أي محاولة للتعامل مع الهيئة الجديدة “لن يكون لها أي اعتبار” وأن المرجعية الوحيدة لأي جسم سيادي هي السلطة التشريعية المنتخبة.
وأكدت الحكومة الليبية من خلال بيانات رسمية وتصريحات متتالية على مجموعة مبادئ أساسية تحكم موقفها من التطورات الأخيرة.
أولها أن الشرعية الدستورية هي المرجعية الوحيدة، وأنه لا شرعية خارج الإطار الدستوري، إذ أن الشرعية محسومة وليست محل نزاع أو تفاوض.
ثانياً، شددت الحكومة على رفض قاطع لأي كيان يُنشأ خارج القانون، مؤكدة أن الهيئة الجديدة وُلدت بلا سند قانوني وبالتالي فهي معدومة ولا ترتب أي أثر قانوني.
ثالثاً، دعت الحكومة إلى الإسراع في إجراء الانتخابات باعتبارها حقاً أصيلاً للشعب، مشيرة إلى أن التأخير المتعمد في العملية الانتخابية أصبح يُنظر إليه كوسيلة لحماية طبقة سياسية مترهلة.
وأخيراً، حذرت الحكومة من اتخاذ خيارات أكثر حدة إذا استمر العبث بالمشروعية، بما في ذلك خيار الحكم الذاتي، الذي لا يهدف إلى تقسيم الدولة بل يمثل ورقة ضغط لحماية منطق الدولة وضمان استقرارها.
هذه الرسائل وجدت صدى واسعاً لدى قطاعات واسعة من المواطنين التي ترى أن “الدولة الحقيقية” موجودة في الشرق، وأن الحكومة المكلفة من البرلمان تمثل القناة الشرعية، السيادية، والقانونية الوحيدة.
الشارع الليبي: صراع بين مشروع دولة ومشروع فوضى
ردود الفعل الشعبية على إعلان “الهيئة العليا للرئاسات” حملت طابعاً يعكس وعياً متنامياً لدى الليبيين بطبيعة الصراع.
فالليبيون اليوم، بعد سنوات من التجارب السياسية المؤلمة، يدركون أن المشكلة ليست في الأسماء ولا في الواجهات، بل في جوهر المشروع السياسي نفسه: هل هو مشروع دولة أم مشروع مصالح؟
في بنغازي أحد المواطنين قال بوضوح: “المسألة مش صراع حكومتين المسألة صراع بين الحق والباطل الشرق يمثل الدولة، والباقي يمثل الفوضى، وفي طرابلس كتب ناشط اجتماعي معارض للهيئة: “هذه الخطوة ليست لتوحيد القرار الوطني… بل لتوحيد الفساد، وفي سبها رد مواطن قائلاً: “القصة مش شرعيات… القصة إن في حكومة شرعية وفي ناس رافضين يسيبوا الكرسي.”
هذه المواقف تكشف أن الشارع، رغم الانقسام الجغرافي، يشترك في فهم واحد: أن الأزمة في ليبيا لم تعد سياسية فقط، بل أخلاقية وقيمية تتعلق بمستقبل الدولة.
البعد الأخلاقي للصراع في ليبيا يكمن في مواجهة بين مفهومين مختلفين للدولة منذ ظهور فكرة “الهيئة العليا للرئاسات”.
المعسكر الأول، معسكر الدولة، يضم الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد والقيادة العامة للقوات المسلحة والقوى الاجتماعية والسياسية التي تؤمن بأن العودة للمسار الدستوري هي الطريق الوحيد للاستقرار.
ويستند هذا المعسكر إلى القانون والشرعية الدستورية، ويهدف إلى إنهاء المرحلة الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة بعيداً عن الصفقات والمصالح الضيقة.
أما المعسكر الثاني، معسكر الفساد، فيمثل الأجسام السياسية المنتهية الولاية ومراكز المصالح المالية وشبكات النفوذ داخل العاصمة، إضافة إلى التحالفات التي تحاول البقاء في المشهد عبر أي غطاء جديد.
ويعتمد هذا المعسكر على إطالة عمر المؤسسات الانتقالية، وخلق أجسام موازية بلا سند قانوني، واستغلال الانقسام السياسي لإعادة إنتاج النفوذ والمصالح الخاصة.
وبين هذين المعسكرين تتجدد معركة أعمق من مجرد خلاف سياسي؛ إنها معركة على تعريف الدولة نفسها: هل هي مؤسسة قانونية أم مجرد مساحة نفوذ؟
منظور قانوني: لماذا فقدت الهيئة مشروعيتها قبل أن تولد؟
من الزاوية الدستورية، يكشف استحداث ما يسمى بجسم سيادي جديد عن مخالفة مباشرة للنصوص المنظمة للسلطات، إذ لا يتضمن الإعلان الدستوري ولا تعديلاته أي مادة تمنح المجلس الرئاسي أو المجلس الأعلى للدولة أو حكومة الوحدة المنتهية الولاية صلاحية إنشاء كيان قيادي جديد.
وتؤكد المواد ذات الصلة أن تشكيل الهياكل العليا للدولة يظل حصراً بيد السلطة التشريعية المنتخبة، وأن أي جسم يُعلن دون سند تشريعي يعد عديم الوجود ولا تترتب عليه آثار قانونية.
كما أن إشراك جهة استشارية مثل مجلس الدولة في إنشاء كيان قيادي يمثل تجاوزاً صريحاً لاختصاصه ولهذه الأسباب اعتبر عدد من القانونيين الخطوة خروجاً واضحاً على قواعد الشرعية الدستورية.
انقلاب سياسي بأدوات شكلية.. محاولة خلق دولة موازية داخل الدولة
إعلان هيئة لا تستند إلى أي أساس قانوني قد يفتح الباب لاضطراب واسع داخل طرابلس، إذ يمكن أن تنقسم التشكيلات المسلحة في الولاء، وتستغل بعض القيادات الكيان الجديد كغطاء لحراك موازٍ، فيما يضعف التنسيق الأمني مع تعدد مراكز القرار لهذا حذّرت الحكومة الليبية المجتمع الدولي من التعامل مع أي جسم خارج الإطار الدستوري.
سؤال التمثيل… جوهر الأزمة الليبية
تتعمق الإشكالية مع تساؤلات حول من يملك حق تمثيل الدولة وإدارة المال العام وتوقيع الاتفاقيات. الإطار القانوني واضح: الحكومة المكلّفة من البرلمان هي الجهة الشرعية الوحيدة، بينما تسعى بعض الأطراف لخلق “شرعية أمر واقع” يرفضها الشارع ومؤسسات الدولة.
موقف القيادة العامة وتمسكها بالدستور
ترى القيادة العامة أن ما يسمى “هيئة الرئاسات” يهدد وحدة المؤسسة العسكرية واستقرار البلاد، ويتجاوز سلطة البرلمان باعتباره مصدر الشرعية. وتؤكد أنها لن تسمح بخلق أجسام موازية بلا سند قانوني.
سيناريوهات مستقبل الصراع
تبدو أمام ليبيا ثلاثة مسارات محتملة: استمرار محاولات الأجسام المنتهية الولاية لفرض واقع جديد وما يرافقه من تفاقم الانقسام؛ أو تدخل دولي أكثر حزماً يدعم المسار الدستوري؛ أو حسم لصالح مشروع الدولة الذي يحمله البرلمان والحكومة الشرعية والقيادة العامة، تمهيداً لانتخابات تنهي الفوضى وتعيد السلطة للشعب.



