ليبيا على مفترق طرق: هل يكون الحكم المحلي بديلاً عن مركزية متعثرة؟
غيث: اللامركزية الحقيقية ضمانة لوحدة ليبيا وتوزيع عادل للثروات

ليبيا 24
في وقت تشهد فيه ليبيا حالة من التشرذم السياسي والاقتصادي منذ سنوات، تطفو على السطح مجدداً دعوات إحياء نموذج الحكم الفيدرالي الذي طبق في بداية استقلال البلاد. هذه المرة، يأتي النداء من خبير مصرفي مخضرم، مما يضفي على الطرح بعداً اقتصادياً يستحق التوقف عنده.
إرث تاريخي أم حل معاصر؟
من خلال متابعة التصريحات التي أدلى بها امراجع غيث عضو مصرف ليبيا المركزي السابق، يتبين أن الدعوة إلى الفيدرالية لا تنبع من منطلقات تاريخية أو مناطقية فحسب، بل من واقع عملي عاشته ليبيا خلال فترة سابقة. فبعد عام 2011، عندما انهارت مؤسسات الدولة المركزية، برزت تجربة مجالس البلديات التسييرية التي أثبتت كفاءة ملحوظة في إدارة شؤون المدن.
ويشير غيث إلى أن هذه المجلس المحلية استطاعت تحديد الاحتياجات الحقيقية للمواطنين، ووصلت المساعدات إلى مستحقيها، وحققت قدراً لا بأس به من الاستقرار الأمني رغم غياب الحكومة المركزية. هذه التجربة العملية تثبت -حسب رأيه- أن المدن الليبية قادرة على إدارة شؤونها بكفاءة إذا أتيحت لها الموارد المناسبة وخلت من تدخلات المركز.
النموذج التاريخي المنسي:
يستعيد المتحدث ذاكرة تأسيس الدولة الليبية الحديثة عام 1951 تحت مسمى “المملكة الليبية المتحدة”، التي تكونت من ثلاث ولايات: برقة، طرابلس، وفزان. ويصف النظام السائد آنذاك بأنه كان متطوراً ومنظماً، حيث تمتع كل إقليم باستقلال إداري ومالي كبير.
فقد كان لكل ولاية مجلسها التشريعي الذي يشبه البرلمان على مستوى الولاية، ومجلسها التنفيذي الذي يماثل مجلس الوزراء، وكانت تسمى حقيبته الوزارية “ناظر” كناظر التعليم وناظر الزراعة. الأهم من ذلك، أن كل ولاية كانت مسؤولة عن إعداد موازنتها الخاصة، وتصديقها عبر المجلس التشريعي المحلي، دون تدخل مركزي يذكر، باستثناء المشروعات الاستراتيجية والاعتمادات الإضافية.
مزايا اللامركزية الاقتصادية:
من المنظور الاقتصادي، يقدم النظام الفيدرالي مزايا متعددة، أبرزها:
- الكفاءة في تخصيص الموارد: حيث أن السلطات المحلية أقدر على تحديد أولويات الإنفاق بما يتناسب مع احتياجات كل منطقة.
- سرعة الاستجابة: فاتخاذ القرار على المستوى المحلي يتسم بالمرونة ويختصر الإجراءات الروتينية المعقدة.
- المساءلة والمحاسبة: يكون المسؤولون المحليون تحت رقابة مباشرة من أبناء منطقتهم، مما يحد من الفساد والإهمال.
- المنافسة الإيجابية: تدفع اللامركزية الولايات إلى التنافس في تقديم أفضل الخدمات وجذب الاستثمارات.
- الاستقرار المالي: تساعد الموازنات المحلية على تحقيق انضباط مالي أكبر من الموازنة المركزية الموحدة.
التجربة العملية لدول مشابهة:
تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدول التي تتبنى أنظمة فيدرالية تتمتع عادة بمعدلات نمو أعلى، ومستوى خدمات أفضل، ومؤشرات تنمية بشرية أكثر تقدمًا. والأهم من ذلك، أن هذه الدول أكثر استقراراً سياسياً من الدول ذات النظام المركزي.
وفي السياق الليبي، يرى المحللون أن تبني نظام لا مركزي حقيقي قد يسهم في حل إشكالية توزيع الثروة، التي كانت أحد أهم أسباب الصراع في البلاد. فالنظام الفيدرالي يضمن توزيعاً أكثر عدالة للعائدات النفطية وغيرها من الموارد الطبيعية.
تحديات التطبيق وإدارة الثروات:
رغم المزايا العديدة للنظام الفيدرالي، إلا أن هناك تحديات كبيرة توضع على طاولة النقاش، أبرزها:
- إدارة الموارد الطبيعية: حيث تثار تساؤلات حول آلية توزيع عائدات النفط والغاز بين الولايات.
- التنسيق بين الولايات: في مجالات مثل السياسة النقدية والتجارة الخارجية والبنية التحتية الوطنية.
- الفجوات التنموية: بين المناطق المختلفة وكيفية معالجتها.
- التوازن في توزيع الصلاحيات: بين الحكومة المركزية والولايات.
ويقدم امراجع غيث رؤية واضحة في هذا الصدد، مؤكداً أن القاعدة الأساسية في الدول الريعية مثل ليبيا يجب أن تكون: “ما تحت الأرض من موارد هو للجميع، وما فوقها من موارد هو ملك المنطقة التي بها”. ويشير إلى أن تجارب العديد من الدول الفيدرالية تقدم نماذج ناجحة يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
تبقى الدعوة إلى إحياء النظام الفيدرالي في ليبيا مثار جدل واسع بين مؤيد يرى فيه ضمانة للعدالة والاستقرار، ومعارض يخشى على وحدة البلاد. لكن ما لا خلاف عليه هو أن النظام المركزي الحالي أثبت فشله في إدارة الدولة الليبية بشكل فعال.
ويبدو أن الحل الأمثل يكمن في صيغة توافقية تجمع بين سلطة مركزية قوية في مجالات السيادة والدفاع والعلاقات الخارجية، وسلطات محلية واسعة في مجالات التنمية والخدمات. وهذا يتطلب حواراً وطنياً شاملاً، يضع مصلحة البلاد فوق كل الاعتبارات، ويستلهم الدروس من التجربة التاريخية، ويستفيد من النماذج الدولية الناجحة.



