ليبيا

فضائح الدبلوماسية الليبية في عهد الدبيبة تكشف انهيارًا مؤسسيًا غير مسبوق

نهب خارجي وتعيينات عبثية وفضائح متلاحقة تفضح كذبة “نهضة الدبلوماسية”

ليبيا 24

أثارت تصريحات رئيس حكومة الوحدة منتهية اللاية عبد الحميد الدبيبة، التي قال فيها إن الدبلوماسية الليبية في عهده “احتلت مراتب متقدمة عالميًا” وإن اختيار الدبلوماسيين يتم وفق “الكفاءة والخبرة”، موجة واسعة من السخرية والاستغراب في الشارع الليبي. فبينما يتحدث الدبيبة عن “نهضة دبلوماسية”، تكشف الوقائع والملفات الرسمية أن وزارة الخارجية خلال الفترة 2021–2025 كانت إحدى أسوأ الحقب التي مرت على مؤسسات الدولة منذ تأسيسها، سواء على مستوى الأداء أو الانضباط أو السلامة المالية والإدارية.

فالوزارة التي يُفترض أنها واجهة ليبيا في الخارج، تحوّلت — بحسب شهادات ديوان المحاسبة وبيانات مكتب النائب العام — إلى ساحة للفوضى والعبث والنهب المنظّم للمال العام.

كما شهدت حالة غير مسبوقة من التعيينات العشوائية التي أفرغت السلك الدبلوماسي من معاييره المهنية، ليتحوّل إلى فضاء للترضيات السياسية، وتوزيع المكافآت، وتثبيت الولاءات.

نهب مالي خارجي: أرقام صادمة وملفات رسمية

تكشف التقارير الرسمية للنائب العام منذ عام 2024 وحتى 2025 عن سلسلة قضايا فساد مالي مرتبطة بسفارات وبعثات ليبية في عدد من الدول. وقد فاقت قيمة الأموال المنهوبة 650 مليون دينار ودولار ويورو، توزعت بين ملفات علاج الجرحى، والتحويلات غير القانونية، والصرف دون سندات، وتعاقدات وهمية، واستغلال مشاريع دولية.

ففي اليونان، تم تسجيل قضية فساد بقيمة 575 مليون دينار تتعلق بملحق صحي تورّط في عقود علاج جرحى “وهميين”. وفي الأردن، ظهرت قضية فساد قديمة–حديثة بلغت قيمتها 250 مليون دولار بالإضافة إلى 30 مليون دولار أخرى، تخص لجنة الجرحى بين عامي 2011 و2017. أما في البوسنة، فقد أثبتت التحقيقات صرف 355 ألف يورو دون مستندات. وفي تونس، تم تسجيل 12 مليون دينار في عقود لم يتم تنفيذها. وحتى في روما، سُحبت أموال من حساب مشاريع منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى حساب شخصي لمندوب ليبي.

كما كشف مكتب النائب العام عن تبديد 32.4 مليون يورو في المصرف الليبي الخارجي للغرض نفسه: الصرف دون مستندات. إضافة إلى فقدان ليبيا لفندق “أفريقيا” في مالي بعد قرض بقيمة 12 مليون يورو تبيّن أنه صبّ في مصلحة شركة تملكها زوجة مسؤول ليبي.

هذه الملفات لا تُظهر مجرد فساد عابر، بل منظومة متكاملة من النهب الخارجي المحمي سياسيًا، والممتد عبر سفارات عدة وملحقين وموظفين من مستويات مختلفة.

السلوك الدبلوماسي المنحط: فضائح تتصدر عناوين الصحافة الأجنبية

ما زاد الصورة قتامة هو سلسلة الفضائح السلوكية لعدد من الدبلوماسيين الليبيين والتي تحوّلت إلى مادة إعلامية في عواصم أوروبية وإفريقية. ففي باريس، تورّط الملحق المالي أحمد حسن مسعود في فضيحة تناول كحول وقيادة مركبة دبلوماسية بسرعة عالية، تخللتها مطاردة عبر عدة شوارع واعتداء على الشرطة الفرنسية، مع محاولته الاستيلاء على قنبلة صاعقة من أحد عناصر الشرطة. ورغم خطورة الواقعة، كانت النتيجة ترقيته ونقله إلى منصب مالي في الرياض.

وفي مدغشقر، سجلت الشرطة حادثة مشابهة لملحق مالي آخر كان في حالة سكر واصطدم بشاحنة أثناء قيادته مركبة السفارة.

هذه الحوادث، وما رافقها من تقارير وتسريبات، عمّقت الشعور بأن السلك الدبلوماسي في عهد هذه الحكومة لم يعد يعكس صورة دولة، بل صورة مؤسسة منهارة ومعزولة عن الأخلاق المهنية.

فضائح الشهادات المزورة: نموذج مجدي عقيلة

من أكثر القضايا التي صدمت الرأي العام قضية المراقب المالي مجدي عبد الله عقيلة، الذي شغل مناصب حساسة في كل من الأردن وسوريا رغم عدم امتلاكه حتى شهادة الثانوية العامة. وقد أثبتت مراسلات رسمية من وزارة التعليم العالي عدم وجود أي مؤهل له، بينما كشفت تسريبات وجود تحويلات مالية باسمه تتجاوز 700 ألف دولار، إضافة إلى استخدامه توقيع شخص متوفى في مستندات رسمية.

هذه القضية اعتُبرت إهانة وطنية، وليست مجرد مخالفة إدارية، لأنها بينت مدى سهولة اختراق وزارة الخارجية عبر تعيينات مبنية على العلاقات لا على الكفاءة.

جوازات دبلوماسية بالمجان: تسريب زلزل الثقة

أظهرت رسالة مسربة لعضو المجلس الأعلى للدولة أبو القاسم دبرز وجود اتفاق بين رئاسة المجلس ووزارة الخارجية لمنح جوازات دبلوماسية خاصة لأقارب المسؤولين، بمن فيهم زوجاتهم وأبناؤهم، دون شروط قانونية، وبمجرد تقديم صورة فوتوغرافية وشهادة ميلاد.

تحوّل الجواز السيادي إلى “هدية سياسية”، وفُتح الباب أمام استغلاله في السفر والإقامة والمزايا الدبلوماسية دون وجه حق.

بعثة جنيف: حصانة سياسية لواحدة من أكبر بؤر الفساد

بعثة ليبيا لدى الأمم المتحدة في جنيف كانت محورًا لانتقادات واسعة بعدما كشفت تقارير ديوان المحاسبة إنفاقًا سنويًا تجاوز 750 ألف دينار، ورواتب مرتفعة، وتعيينات مخالفة للقانون.

 ورغم كل ذلك، صدر قرار رسمي من المجلس الرئاسي يمنع استدعاء المندوبة لمياء بوسدرة، في خطوة فسّرها كثيرون بأنها حماية سياسية واضحة.

هولندا: نموذج لـ”دولة داخل دولة”

كشف عدد من التسريبات الصوتية والوثائق عن تجاوزات خطيرة ارتكبها مسؤولون ليبيون في السفارة الليبية بلاهاي، من بينهم السفير زياد دغيم الذي يجمع بين راتبين، والمراقب المالي إبراهيم عكرة الذي اشترى سيارة BMW بـ150 ألف يورو وقادها بسرعة 230 كلم في الساعة، قبل أن يهدد في تسجيل صوتي بأن “يشكي للنائب العام”.

استثمارات ليبيا الخارجية: انهيار كامل للرقابة

فقدت ليبيا السيطرة على عدد من استثماراتها الخارجية بسبب سوء الإدارة والتمكين السياسي، خصوصًا في محفظة الـ10 مليار دولار، حيث عُيّن أشخاص مرتبطون بأجهزة أمنية في مواقع مالية حساسة، فيما اختفت قروض بملايين اليورو دون أثر.

الأرقام الحاسمة: صورة كاملة للانهيار

تشير البيانات إلى:

– 14 قضية فساد دبلوماسي خلال عامين.

– خسائر تتجاوز 650 مليونًا.

– فضائح في أكثر من 15 دولة.

– فضيحة جديدة كل 38 يومًا.

– غياب تام للإصلاح أو المحاسبة.

الخلاصة

لا يعكس المشهد الدبلوماسي الليبي في عهد الدبيبة “نهضة”، بل انحدارًا شاملًا أصاب هوية الدولة في الخارج. المؤتمر الذي تتحدث عنه الحكومة ليس احتفالًا بالإنجاز، بل محاولة لصرف الأنظار عن ركام مؤسسي يزداد تآكلًا يوماً بعد يوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى