
ليبيا 24
مدخل الأزمة: نهاية حقبة “الصريرات”
في الداخل الليبي، برع عبدالحميد الدبيبة في اللعب على التناقضات. سياسة “الصريرات” – تلك التي تجمع بين نصف وعد هنا وكلمة مطمئنة هناك – مكّنته من إرضاء القبائل والمليشيات والنخب الاقتصادية والسياسية. لكن تلك القاعدة الذهبية سقطت فجأة حين وجد نفسه في مواجهة خصمٍ خارجي لا يُشبه لاعبي الداخل: إسرائيل.
هنا تتبدل القواعد. فلا مكان للخطاب المزدوج ولا للمناورة الرمادية. إسرائيل تقولها بوضوح: “إما معنا… أو ضدنا.”
تقرير قاتم من تل أبيب: “العلاقة السرية انكشفت”
صحيفة جيروزاليم بوست وضعت الدبيبة أمام مرآة قاسية. فالرجل الذي صرّح للإعلام العربي برفض التطبيع، كشفت تسريبات تل أبيب أنه على طاولة محادثات سرية مع الإسرائيليين، يقودها مقربون منه، وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي إبراهيم الدبيبة.
يؤكد الباحث الاستراتيجي ليور دابوش أن المشكلة ليست في وجود قنوات اتصال، بل في أن هذه القنوات تتسرب كل مرة إلى العلن، ما يجعل الدبيبة يبدو مترددًا ومتخبطًا أمام جمهوره في الداخل والخارج على حد سواء.
فضيحة أغسطس 2023: حين احترقت أوراق المواربة
ليست هذه المرة الأولى التي تنكشف فيها أوراق الدبيبة. ففي أغسطس 2023، فجّرت زيارة نجلاء المنقوش لوزير الخارجية الإسرائيلي في روما أزمةً عاصفة. يومها، تخلّى الدبيبة عن حليفته الوزيرة سريعًا وأوقفها عن العمل ليحافظ على صورته أمام الداخل الليبي الغاضب، رغم أن تقارير عديدة أكدت أن اللقاء تم بموافقته الشخصية.
ذلك المشهد كان إنذارًا مبكرًا بأن لعبة السرية مع الإسرائيليين غير قابلة للاستمرار، لكن الدبيبة – كعادته – راهن على الوقت، ليجد نفسه اليوم أمام حائط مسدود.
الإسرائيليون لا يلعبون في الظل
إسرائيل، بخلاف خصوم الداخل، تُتقن لعبة العلنية. فهي تدرك أن التسريبات المدروسة أقوى من أي تفاهمات خلف الأبواب المغلقة.
ومن وجهة نظر تل أبيب، التطبيع مع ليبيا ليس مجرد ورقة سياسية، بل جزء من خطة استراتيجية لإيجاد منافذ جديدة لتخفيف عزلتها الإقليمية وتعزيز مصالحها في شمال إفريقيا وشرق المتوسط.
الملف الأخطر: المهجرون من غزة
رغم نفي الدبيبة الرسمي لأي نية لاستقبال مهجرين من غزة، تكشف تقارير إسرائيلية أن محادثات جرت فعلًا حول هذا الملف، بقيادة إبراهيم الدبيبة نفسه. هذه التسريبات وضعت الحكومة في مواجهة غضب شعبي عارم، وطرحت أسئلة حادة حول حدود التنازلات التي قدّمها الدبيبة مقابل استمرار بقائه في السلطة.
الخيار الصعب: وضوح أم سقوط
اليوم، يقف عبدالحميد الدبيبة أمام اختبار حقيقي.
• إما أن يختار الانسجام مع الشروط الإسرائيلية ويصبح “رجل تل أبيب” العلني في طرابلس، بكل ما يعنيه ذلك من فقدان شرعية شعبية.
• أو أن يواصل المراوغة، ليجد نفسه معزولًا في الداخل ومكشوفًا أمام خصم خارجي يجيد إدارة اللعبة بتسريبات وإشارات تكفي لإحراق أي ورقة تفاوضية في يده.
أزمة أكبر من قدرات المناورة
الأزمة الحالية تكشف أن الدبيبة لم يدرك بعد أن أدواته القديمة فقدت صلاحيتها. لعبة “الصريرات” التي نجحت مع المليشيات والقبائل عاجزة أمام عقلية إسرائيلية لا تعترف بالرمادية.
وبينما يتنقل الدبيبة بين وعوده المتناقضة، يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التوازن الهش قبل أن ينهار تمامًا؟