اقتصاد

إرباك الأسواق وتجاوز المصارف.. انتقادات لسياسة المركزي في سحب النقد

خبير اقتصادي: المصرف المركزي يرتكب "خطأ فادحا" في إدارة سحب العملات.

ليبيا 24
ليبيا على مفترق طرق نقدي: إجراءات المصرف المركزي تثير الجدل بين دعم الاستقرار وتعميق الفجوة مع السوق

تتصاعد حدة الجدل في الأوساط الاقتصادية والمالية الليبية حول فاعلية الإجراءات الأخيرة التي ينفذها المصرف المركزي، والهادفة إلى إدارة الكتلة النقدية وسحب فئات متداولة، في وقت يتفاقم فيه انقسام السوق بين رسمي وموازي، وتتصاعد مخاوف المواطنين من تبعات هذه الخطوات على قدرتهم الشرائية واستقرار تعاملاتهم اليومية.

وفيما تؤكد السلطة النقدية أن خطواتها “مهنية وضرورية” لضبط السياسة النقدية ومكافحة التضخم والتزوير، يرى خبراء اقتصاديون ومحللون أن أخطاءً تنفيذية “فادحة” وغياب التنسيق الكافي مع المصارف التجارية يهدد بتحويل هذه السياسات إلى عامل مزيد من الإرباك، بل ويساهم في تغذية الاقتصاد غير الرسمي الذي تسعى لاحتواءه.

فجوة تنفيذية وارتباك في السوق

في قلب العاصفة، تقف عملية سحب فئات نقدية محددة، وهي إجراء ليس جديداً في أدوات البنوك المركزية عالمياً. إلا أن طريقة التنفيذ، كما يصفها الخبير الاقتصادي مختار الجديد، هي التي تحمل “خطأ فادحاً”.

ويشير الجديد إلى أن القانون ينص على فترة سحب لا تقل عن 60 يوماً، إلا أن المصرف المركزي منح مهلة قصيرة لم تتجاوز 10 إلى 13 يوماً لسحب فئة العشرين ديناراً. هذه الفترة الضيقة، وفقاً للجديد، لم تكن كافية للسماح للمصارف والمواطنين بالتكيف مع القرار، مما دفع بعض المصارف إلى رفض قبول هذه الأوراق النقدية في أجهزة الصراف الآلي أو إعادة تداولها، ما عطل عمليات السحب والإيداع وأربك السوق.

ويؤكد الجديد في تصريحات إعلامية أن “الوقت الكافي كان ضرورياً”، مشيراً إلى أن الحل الأمثل كان يتمثل في “تنفيذ السحب بشكل تدريجي ومنظم” لتجنب الأضرار التي لحقت بالسوق والمواطنين على حد سواء.

تحديات الرقابة وتجاوزات المصارف

لا تقف المشكلة عند توقيت الإعلان فحسب، بل تمتد إلى ضعف آليات الرقابة الداخلية وعدم انصياع بعض المصارف التجارية للتعليمات الصادرة عن السلطة النقدية.

ويكشف الجديد عن أن المصرف المركزي أصدر تعليمات واضحة بعدم ضخ فئة الخمسين ديناراً الجديدة سواء عبر القنوات الإلكترونية أو أجهزة الصراف الآلي، “لكن بعض المصارف تجاوزت هذه التعليمات، ما يدل على ضعف الرقابة الداخلية”.

هذه التجاوزات، يقابلها صعوبة من المصرف المركزي في “السيطرة على أكثر من ألف فرع في البلاد” بسبب ضعف التنسيق، كما يوضح الجديد، مما يخلق فجوة تنفيذية خطيرة تقوض من فاعلية أي سياسة نقدية مهما كانت مدروسة.

الكتلة النقدية وسعر الصرف: معادلة صعبة

من جهة أخرى، يدافع محللون اقتصاديون آخرون عن الهدف الاستراتيجي للإجراءات. ويوضح المحلل الاقتصادي علي الصلح أن نسبة العملة المتداولة خارج الجهاز المصرفي شهدت تقلبات حادة منذ عام 2014، حيث انخفضت إلى أقل من 50% قبل أن ترتفع إلى 66% في أسوأ مراحل الأزمة، مما شكل “ضغطاً هائلاً على الاقتصاد”.

ويشير الصلح إلى أن المصرف المركزي يسعى حالياً إلى خفض هذه النسبة إلى أقل من 50% مرة أخرى، وهي “خطوة إيجابية” تساعد الجهاز المصرفي على التحكم في عرض النقود وتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي. ويبلغ حجم العملة المتداولة حالياً نحو 52 مليار دينار، مع زيادة في الطلب على العملات الأجنبية، خاصة الدولار، بسبب اعتماد ليبيا شبه الكلي على عائدات النفط المقومة بالعملة الصعبة.

ويرى الصلح أن تحديد حجم العملة المحلية المتداولة يساعد بشكل غير مباشر على “تقليل القدرة الشرائية للعملات الأجنبية والمساهمة في السيطرة على سعر الصرف”، مستخدمًا في ذلك أدوات مثل سعر الفائدة والاحتياطي الإلزامي.

الثقة المفقودة والهروب إلى السوق الموازي

يبقى التحدي الأكبر الذي تواجهه أي إصلاحات نقدية في ليبيا هو استعادة الثقة في النظام المصرفي، وهي ثقة مهترئة بعد سنوات من الانقسام وعدم الاستقرار.

ويؤكد المستشار المالي علي الشكري أن “مؤشر النجاح الحقيقي يتمثل في قدرة المصرف على زرع الثقة لدى الجمهور والمتعاملين والتجار”، محذراً من أن “أي خلل سيؤدي إلى عزوف العملاء عن التعامل مع النظام المصرفي، وهو ما يعيد الأزمة إلى نقطة البداية”.

وهو ما يفسره الخبير الاقتصادي مختار الجديد بأن “تكرار عودة الأموال إلى المواطنين بنفس الشكل يدفعهم أحيانًا للتوجه إلى السوق الموازية”، خاصة مع وجود فارق في أسعار صرف العملات القديمة التي يُتوقع سحبها، حيث يميل التجار إلى بيعها بأسعار مرتفعة. ويشير الجديد إلى أن “تأخر اتخاذ الإجراءات المناسبة من المركزي هو الذي تسبب في تفاقم المشكلة”.

الفجوة الرقمية وإشكالية الإدماج المالي

تسلط إجراءات السحب الضوء أيضاً على إشكالية عميقة، وهي الفجوة في الإدماج المالي واعتماد جزء كبير من المجتمع، خاصة صغار التجار وكبار السن وأصحاب الدخل المحدود، على التعامل النقدي بشكل كامل.

ويشير الجديد إلى أن موضوع سحب الفئات الصغيرة “يشغل بال أصحاب المبالغ الصغيرة الذين يفضلون السحب النقدي المباشر دون استخدام أجهزة الصراف الآلي”. هذا يعني أن هذه الفئة هي الأكثر تضرراً من أي ارتباك في عملية السحب أو التقصير في توفير بدائل مناسبة وسهلة الوصول.

وفي المقابل، يشيد الشكري بالخطوات “الممتازة” التي اتخذها المصرف المركزي في مجال التحول الرقمي والميكنة، خاصة منظومة “راتبك لحظي” التي حققت نسب نجاح عالية تتراوح بين 90 و95%، وفقاً للبيانات الرسمية. هذه المنظومة، كما يصفها، تمثل “نقلة نوعية” في آلية صرف المرتبات، توفر سرعة في التحويل وشفافية عالية وتساهم في الحد من الهدر والفساد.

توصيات نحو سياسة أكثر شمولاً

يخرج الخبراء الاقتصاديون بمجموعة من التوصيات التي يرون أنها قد تعزز من فاعلية السياسة النقدية وتخفف من آثارها الجانبية:

  1. تعزيز الشفافية والتواصل: يدعو الشكري إلى “اعتماد قنوات إعلامية رسمية متخصصة” بدلاً من الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، ومطالبة المصرف المركزي بعقد مؤتمرات صحفية دورية لتوضيح سياساته ونتائجها.
  2. تحسين التنسيق والرقابة: ضرورة ضبط آلية التواصل والتنسيق بين المركزي والمصارف التجارية لضمان الامتثال الكامل للتعليمات وتعزيز آليات الرقابة الداخلية والخارجية.
  3. فترات سحب مدروسة: اقترح الشكري ألا تتجاوز فترة استبدال العملة “عشرة أيام إلى أسبوع” في المستقبل، مع توفير بدائل وحوافز لأصحاب الفئات المسحوبة لتحفيزهم على التحول إلى القنوات المصرفية الرسمية.
  4. معالجة الفجوة بين سعري الصرف: يرى أستاذ الاقتصاد عمر زرموح أن التحدي الجوهري يكمن في “الفجوة بين السعر الموازي والسعر الرسمي” والتي وصفها بـ “التشوه الاقتصادي”، داعياً إلى العمل على سد هذه الفجوة كشرط أساسي لأي استقرار مالي حقيقي.
  5. سياسات متكاملة: ضرورة أن تعمل السياسات النقدية والتجارية والمالية “في انسجام تام، باعتبارها منظومة واحدة لا تنفصل”، كما يؤكد زرموح، محمّلاً المصرف المركزي مسؤولية الدفاع عن سعر الصرف الرسمي الذي أقره دون اللجوء لحلول بديلة like الضرائب غير المدروسة.

خلاصة على حافة الهاوية

تمثل الإجراءات النقدية الحالية في ليبيا اختباراً حقيقياً لمصداقية وسلطة المؤسسة النقدية وقدرتها على قيادة مرحلة اقتصادية دقيقة. بين مطرقة ضرورة ضبط الكتلة النقدية وسندان مخاوف المواطن من المزيد من التدهور في قيمة مدخراته وقوته الشرائية، يسير المصرف المركزي على حبل مشدود.

النجاح لن يُقاس بتحقيق أرقام مجردة حول حجم النقد المتداول، بل بقدرة هذه الإجراءات على استعادة الثقة المفقودة، وإعادة اجتذاب السيولة إلى القنوات الرسمية، وإحداث تأثير ملموس وإيجابي على استقرار سعر الصرف وحياة الليبيين اليومية. الفشل، في المقابل، يعني مزيداً من الإقصاء المالي، وتعميقاً لهوة عدم الثقة، وإغناءً للاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد الرسمي، في حلقة مفرغة تهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي برمته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى