اشتباكات جنزور تعيد الذعر لطرابلس وتقوض عودة الدراسة
مواطنو طرابلس يدفعون ثمن صراعات الميليشيات المستمرة

ليبيا 24
بين الرصاص والكتب: حياة الليبيين معلقة في ميزان الميليشيات بغرب طرابلس
طرابلس – في شقة متواضعة بحي “الزهراء” في جنزور، لا يزال صدى أصوات الرصاص الذي انطلق فجر الأحد يتردد في آذان أسرة أحمد التليسي (45 عاماً). ليست الأصوات وحدها هي ما بقي، بل خيار صعب يواجهه بين أن يرسل أطفاله الثلاثة إلى المدرسة محاطاً بهاجس الخطف أو القتل العشوائي، أو أن يحرمهم من التعليم خوفاً على حياتهم. هذه المعادلة المستحيلة هي واقع يومي يعيشه آلاف المواطنين في غرب ليبيا، حيث تحولت أحياؤهم إلى ساحات لتصفية حسابات مسلحة بين مليشيات تتناحر على النفوذ والمال، تاركة المدنيين يدفعون الثمن من أمنهم، وأرزاقهم، ومستقبل أبنائهم.
· “الشارع لم يعد آمناً”: شهادات من قلب دائرة الخطر
التقينا بعدة مواطنين عاشوا ساعات الرعب خلال الاشتباكات الأخيرة. أم محمد، أرملة وأم لخمسة أطفال، تقول: “الليلة الماضية كاد الرصاص أن يخترق غرفة نوم البنات. ناموا جميعاً على الأرض تحت النوافذ. كيف أطلب منهم صباحاً أن يتركوا هذا ‘الملجأ’ ويمشوا في الشارع ذاته إلى المدرسة؟ التعليم مهم، لكن حياتهم أهم”. من جهته، يصف المواطن صلاح الشريف (32 عاماً)، الذي يعمل سائقاً، كيف أصبح التنقل مقامرة: “الطريق الساحلي أغلق فجأة. تأخرت عن العمل وخصم رئيسي من راتبي الشحيح. نحن لا نحارب، لكننا من يدفع ثمن حرب غيرنا. الحكومة غائبة، والشارع لم يعد آمناً لا للكبار ولا للصغار”.
· عام دراسي على مقاعد الرصاص: التعليم في مهب الريح
كان من المفترض أن تشهد هذه الأسابيع عودة الحياة إلى مدارس المنطقة بعد عطلات متقطعة، لكن الواقع كان مغايراً. مديرة إحدى المدارس الإعدادية، التي طلبت عدم ذكر اسمها خوفاً من انتقام الميليشيات، أوضحت: “نسبة الحضور يوم الأحد لم تتجاوز 20%. كثير من الأهالي أرسلوا رسائل يعتذرون عن غياب أبنائهم خوفاً على سلامتهم. حتى المعلمون أنفسهم يخشون التنقل”. وأضافت بغصة: “نحن نناقش في خططنا كيفية تحسين جودة التعليم، بينما التحدي الحقيقي أصبح هو كيفية إيصال الطالب إلى المدرسة حياً. أين وزارة التعليم؟ أين الحكومة؟ لم نرَ أي توجيهات أو إجراءات احترازية لضمان سلامة الطلاب”.
· اقتصاد منكسر: إغلاق الطرق يخنق أرزاق المواطنين
لم تكن المدارس وحدها هي المتضرر. إغلاق الطريق الساحلي الرئيسي، الشريان الحيوي الذي يربط طرابلس بمدن الغرب مثل الزاوية وصبراتة، كان له أثر كارثي على الحركة الاقتصادية. علي الفرجاني، تاجر خضار وفاكهة، كان متوجهاً إلى سوق الزاوية لشراء البضاعة عندما أوقفته الاشتباكات. “خسرت يوم كامل من العمل، والبضاعة التي كانت معي تلفت بسبب الحرارة والانتظار. الخسائر تتزايد كل مرة تتكرر فيها هذه الاشتباكات. من يعوضنا؟”. هذه الصورة تتكرر مع سائقي الشاحنات، وأصحاب المحال، والموظفين الذين يعبرون هذا الطريق يومياً، مما يزيد من طحن المواطن اقتصادياً في ظل غياب أي شبكة أمان اجتماعي.
· صمت رسمي وصوت مدفعي: غياب الدولة يعمق الأزمة
في خضم هذا كله، يلف الصمت الرسمي المشهد كله. لم تصدر أي بيانات واضحة أو إجراءات ملموسة من حكومة الوحدة الوطنية أو وزارتي الدفاع والداخلية التابعتين لها لاحتواء الأزمة أو محاسبة المسؤولين. هذا الغياب، كما يرى المراقبون، ليس غياباً فعلياً فحسب، بل هو تعبير عن هشاشة سلطة هذه الحكومة أمام نفوذ الميليشيات المسلحة التي تتحكم فعلياً بالمشهد. يقول الناشط المجتمعي فتحي العكرمي: “حكومة الدبيبة تتعامل مع الأعراض وليس مع المرض. تتوسط لوقف إطلاق النار لساعات ثم تعاود الاشتباكات مرة أخرى. العلاج الجذري هو تفكيك هذه الميليشيات ونزع سلاحها وإدماج من يستحق في مؤسسات دولة واحدة. لكن الإرادة السياسية غائبة، والمواطن هو الوقود الذي تحترق به هذه المعركة”.
· المواطنون يرفضون الانقسام: “نحن ضد الميليشيات.. مع ليبيا واحدة”
رغم محاولات بعض الأطراف تصوير الصراع على أنه قبلي أو إقليمي، يؤكد المواطنون الذين تحدثنا لهم أن رفضهم شامل لكل من يهدد أمنهم، بغض النظر عن انتمائه. المواطن معتز الرعيض (50 عاماً) لخص الموقف بقوله: “لا فرق عندي بين ‘القوة المشتركة’ أو ‘كتيبة السويح’ أو أي اسم آخر. كلهم ميليشيات خرجت عن القانون وزرعت الرعب فينا. نحن لسنا مع طرف ضد آخر، نحن ضد فكرة السلاح غير الشرعي. ندعم ليبيا ككل، وندعم الجيش والشرطة النظامية، وليس هذه العصابات”. هذه الروح الوطنية تنتشر بين الشباب على منصات التواصل الاجتماعي تحت هاشتاغات مثل #لاللميليشيات و#جنزورتبحثعنالأمان، معلنين رفضهم لاستمرار هذا الواقع المزري.
بينما تتهادى أصوات الانفجارات بين الحين والآخر في أحياء جنزور، يبقى السؤال: إلى متى سيستمر هذا العبث؟ إلى متى سيبقى مستقبل جيل كامل رهينة الرصاص والصراعات بين أمراء الحرب؟ قصص المعاناة الإنسانية في غرب ليبيا ليست مجرد أرقام في تقارير عابرة، بل هي ندوب غائرة في جسد المجتمع الليبي. إن إنقاذ ما تبقى من نسيج هذا المجتمع يتطلب أكثر من وساطات هشة؛ يتطلب إرادة حقيقية من المجتمع الدولي والفاعلين المحليين لنزع سلاح هذه الجماعات وبناء دولة مؤسسات تحمي مواطنيها، بدلاً من أن تتركهم وقوداً لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.