إدريس احميد يكتب: الاعتراف بفلسطين… تحت المجهر هل هو تحول سياسي أم مراوغة جديدة؟
100 عام من التهجير والاحتلال والتواطؤ الدولي والخذلان السياسي والمجازر المستمرة.

ليبيا 24
مرّ أكثر من مئة عام على بداية المأساة الفلسطينية، منذ أن منحت بريطانيا أرض فلسطين للحركة الصهيونية في وعد بلفور عام 1917.
مئة عام من التهجير والاحتلال، والتواطؤ الدولي، والخذلان السياسي، والمجازر المستمرة.
واليوم، تعلن بريطانيا، ومعها كندا وأستراليا والبرتغال، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وتلتحق بها لاحقًا فرنسا ودول أوروبية أخرى. خطوة وُصفت بأنها “تاريخية”، لكن كثيرين يرون فيها مجرد إعلان متأخر، أو حتى محاولة لتجميل صورة الدول التي كانت سببًا في النكبة.
فهل هذا الاعتراف دعم حقيقي لحقوق الفلسطينيين؟ أم أنه خطوة دبلوماسية هدفها تهدئة الغضب العالمي المتزايد ضد إسرائيل؟
لماذا الآن؟ ولماذا بعد أكثر من قرن؟
هذا الاعتراف لم يأتِ فجأة. هناك تغيّرات كبيرة في المشهد الدولي، منها:
تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد إسرائيل في الدول الغربية.
تزايد عدد الدول التي تعترف رسميًا بدولة فلسطين، مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج.
فشل عملية السلام التي دعمتها أمريكا وبريطانيا لسنوات طويلة.
لكن السؤال الأهم:
أين كانت بريطانيا عندما كانت غزة تُقصف وتُدمّر؟
أين كانت حين توسّعت المستوطنات، وتم قتل اتفاق أوسلو؟
يبدو أن الاعتراف الحالي جاء متأخرًا جدًا، وربما يهدف إلى غسل اليد من الماضي الاستعماري، أكثر من كونه تعويضًا للفلسطينيين.
نتنياهو في موقف صعب… لكن هل سيتأثر؟
في الداخل الإسرائيلي، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضغوطًا كبيرة:
قضايا فساد تطارده.
فشل عسكري في القضاء على حماس.
انقسام داخلي بعد أحداث 7 أكتوبر.
الاعتراف الدولي بدولة فلسطين يُعتبر إحراجًا لحكومته، ويُستخدم ضده من المعارضة الإسرائيلية. وقد يكون هذا الاعتراف بداية لتراجع مكانته السياسية.
لكن في المقابل، يُمكن أن تستغل الحكومة الإسرائيلية هذه الخطوة لتبرير المزيد من العنف، كما فعل نتنياهو حين هدّد باجتياح الضفة الغربية وطرد السلطة الفلسطينية، مؤكدًا أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية.
هل يُستخدم الاعتراف كغطاء جديد للعدوان؟
هناك خوف حقيقي من أن يتحوّل هذا الاعتراف إلى مجرد ورقة سياسية، تقول من خلالها الدول الغربية: “لقد اعترفنا بفلسطين”، بينما لا تقدّم أي خطوات حقيقية على الأرض.
بل وقد تستغل إسرائيل هذا الاعتراف لتُعلن أن الدولة الفلسطينية قد “وُجدت على الورق”، وبالتالي:
لا حاجة لمفاوضات.
لا تنازلات إضافية.
لا ضغط دولي فعلي.
في هذه الحالة، قد نشهد:
تسارع الاستيطان في الضفة الغربية.
تفكيك تدريجي للسلطة الفلسطينية.
فرض حل أحادي من قبل إسرائيل بدعم أمريكي.
الموقف الأمريكي… إحراج واضح
كالعادة، رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين، واعتبرت الخطوة “خاطئة وخطيرة”، وهو موقف ثابت في كل تصويت أو قرار أممي لصالح الفلسطينيين.
لكن هذه المرة، هناك اختلاف كبير:
حلفاء أمريكا التقليديون مثل بريطانيا وكندا وأستراليا لم يتبعوها، واتخذوا موقفًا مستقلًا نسبيًا.
هذا التغير يُضعف الموقف الأمريكي أمام العالم، ويكشف عزلة واشنطن السياسية والأخلاقية، خاصة مع استمرارها في دعم احتلال يخالف كل القوانين الدولية.
وقد تفقد أمريكا دورها كوسيط في الصراع، إن لم تكن قد فقدته بالفعل.
فرص عربية في ضوء الاعتراف بدولة فلسطين
رغم الجدل حول الأثر العملي للاعترافات الأوروبية، إلا أن هذا التطور يوفر فرصة سياسية استراتيجية للعرب لإعادة التموضع والتأثير، خاصة في ظل التراجع الإسرائيلي الأخلاقي والدبلوماسي بعد الحرب على غزة، وظهور ملامح نوايا توسعية واضحة.
1. التحرك العربي ككتلة دبلوماسية موحدة
على الدول العربية، خاصة المؤثرة إقليميًا مثل السعودية ومصر والأردن، أن تستثمر هذه اللحظة لتشكيل جبهة دبلوماسية موحدة تتحرك على مسارات متعددة:
الضغط على الدول المترددة للاعتراف بفلسطين.
المطالبة بإعادة إحياء المبادرة العربية للسلام، ولكن بصيغة أكثر تشدداً ومشروطة هذه المرة.
تشكيل أدوات سياسية جديدة لمواجهة الرواية الإسرائيلية في المحافل الدولية.
تفكيك الانفراد الإسرائيلي بالمشهد الدبلوماسي
منذ اتفاقيات التطبيع، شعرت إسرائيل بأنها في موقع الهيمنة. لكنها الآن تواجه:
تراجعًا في صورتها الدولية.
تحركات أوروبية تعارض مواقفها.
تغيّرًا في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية.
يمكن للعرب استغلال هذا الارتباك وتحويله إلى ضغط سياسي مركّب، عبر تحركات قانونية، ومواقف موحدة في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية.
دور السعودية المحوري… بحاجة إلى دعم
السعودية، باعتبارها الدولة ذات التأثير الإقليمي والديني، تتحرك حاليًا في الملف الفلسطيني عبر:
مؤتمرات إغاثية وسياسية.
مبادرات تنسيقية مع الدول الكبرى.
ربط ملف التطبيع بالموقف من الدولة الفلسطينية.
لكن هذا التحرك يظل ناقصًا دون دعم مصري–أردني. مصر تملك مفاتيح غزة، والأردن له دور تاريخي في القدس. التعاون الثلاثي يمكن أن يشكّل قوة ضغط حقيقية على إسرائيل والمجتمع الدولي.
تحويل الاعتراف إلى آلية لحماية ما تبقى
حتى لو لم يؤثر الاعتراف على الأرض مباشرة، فإن قيمته الرمزية والسياسية تمنح العرب فرصة:
لإعادة التأكيد على الشرعية الدولية لحقوق الفلسطينيين.
ولجم أي مشاريع إسرائيلية تتعلق بـ”الضم” أو “التوسع”.
وفتح مسارات قانونية جديدة لمحاسبة الانتهاكات الإسرائيلية.
خاتمة: الاعتراف وحده لا يكفي
الاعتراف بدولة فلسطين، من حيث الشكل، هو خطوة مهمة. لكنه يبقى ناقصًا إن لم يتحوّل إلى أفعال حقيقية على الأرض، مثل:
فرض عقوبات على الاحتلال الإسرائيلي.
دعم سياسي ومادي لإقامة الدولة الفلسطينية.
الاعتراف بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
محاسبة إسرائيل على الجرائم التي ارتكبتها.
وإلا، فإن الاعتراف سيبقى مجرد بيان رمزي، لا يغيّر شيئًا في الواقع اليومي للفلسطينيين. أما إسرائيل، فستستمر في مشروعها الاستيطاني التوسّعي – من النهر إلى البحر – ما لم تواجه ضغطًا دوليًا حقيقيًا، سياسيًا واقتصاديًا وقانونيًا، وليس فقط بيانات وتصريحات.
وفي المقابل، لا بد من الانتباه إلى أن هذا الاعتراف لن يكون دون أثمان سياسية داخلية على الدول التي أقدمت عليه.
ففي بريطانيا، واجه القرار معارضة من حزب المحافظين، كما أن قادة اليمين الأوروبي في دول مثل ألمانيا يعارضون بشدة أي توجه يعترف بدولة فلسطينية. في ألمانيا تحديدًا، حيث التاريخ الثقيل والدعم التقليدي لإسرائيل، يُوضع موقف الحكومة تحت المجهر الشعبي والإعلامي والحزبي. وهناك أحزاب ترى أن الاعتراف يُضعف “أمن إسرائيل”، وتضغط لمنع أي خطوات إضافية في هذا الاتجاه.
وهذا يعني أن الاعتراف، بدل أن يُوحّد المواقف الأوروبية، قد يفتح الباب أمام تباينات سياسية عميقة داخل كل دولة على حدة، بل وداخل الاتحاد الأوروبي ككل، بما يُنذر بانشغال أوروبي جديد في ملف شائك، قد يُعيد خلط الأوراق على مستوى السياسة الخارجية والداخلية في آن معًا
ملاحظة ختامية
وصفت الإدارة الأمريكية الاعتراف بدولة فلسطين بأنه “خطوة كارثية”، بينما اعتبر قادة جمهوريون في الكونغرس القرار “سياسة متهورة”.
أما في بريطانيا، فقد هاجمت زعيمة المحافظين كيمي بادينوك القرار، واعتبرته “مكافأة للإرهاب”، مما يُظهر الانقسام السياسي الداخلي في لندن تجاه هذه الخطوة – وهو ما قد نراه يتكرر في عواصم أوروبية أخرى خلال المرحلة المقبلة.