ليبيا على مفترق طرق.. خارطة طريق أممية جديدة واختبار للإرادة السياسية وسط تداخلات دولية معقدة
مبادرات أممية جديدة لدفع الانتخابات والمصالحة في ليبيا.

ليبيا_24
تشهد الساحة الليبية حراكاً دبلوماسياً مكثفاً تتصدره بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في محاولة لإعادة إطلاق مسار سياسي متعثر، وذلك عبر خارطة طريق جديدة تهدف إلى إنهاء حالة الانقسام السياسي والأمني التي عصفت بالبلاد منذ سنوات. هذا المسار الأممي، الذي يحظى بدعم دولي واضح، يواجه اختباراً حاسماً في ظل واقع ليبي تتشابك فيه تعقيدات داخلية مع تنافسات إقليمية ودولية، مما يلقي بظلال من الشك حول جدواه وجدواه الزمنية.
دعم دولي واضح وغموض زمني يلف الخريطة الجديدةعلى هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، عقدت الممثلة الخاصة للأمين العام للامم المتحدة في ليبيا، هانا تيتيه، اجتماعاً ضم ممثلين عن عشر دول فاعلة، بينها الولايات المتحدة وتركيا ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر والسعودية والإمارات والمملكة المتحدة.
وأكد المجتمعون، وفقاً لبيان صادر عن البعثة الأممية، على “الدعم القوي لخارطة الطريق السياسية” التي طرحتها تيتيه مؤخراً، معربين عن “الحاجة الماسة لتوحيد المؤسسات الليبية” و”تعزيز التكامل الأمني بين شرق ليبيا وغربها”.هذا الدعم الدولي المتجدد يأتي كرسالة طمأنة للبعثة الأممية وللأطراف الليبية، لكنه يقابله غياب واضح لجدول زمني مفصل وملزم.
فقد أشارت تيتيه سابقاً إلى إطار زمني عام يمتد بين 12 إلى 18 شهراً لتنفيذ الخريطة، التي ترتكز على ثلاث ركائز أساسية: توحيد المؤسسات عبر تشكيل حكومة جديدة، وإعداد إطار قانوني للانتخابات، وإطلاق “حوار مهيكل” يشارك فيه مختلف أطياف المجتمع الليبي. غير أن البعثة نفسها أوضحت عبر منصاتها الرقمية أن الخطة “لا تتضمن مواعيد ملزمة”، وأن تقدمها “مرهون بتوفر الإرادة السياسية” المحلية.مكونات الخارطة الجديدة: بين الطموح والتحدياتتبدو خارطة الطريق الجديدة شاملة للملفات العالقة، لكن تفاصيل تنفيذها تثير تساؤلات كبيرة:
1. الحوار المهيكل: منبر للأصوات أم عملية شكلية؟ يُعد “الحوار المهيكل” الركيزة المجتمعية للخريطة، وتهدف البعثة من خلاله إلى خلق منصة تشاورية واسعة تناقش قضايا جوهرية مثل شكل الدولة، وتوزيع الثروات، والمصالحة الوطنية.
وقد بدأت البعئة في خطوات عملية بتنظيم لقاءات افتراضية للشباب الليبي تحت عنوان “الشباب يشارك”. إلا أن خبراء يشككون في قدرة هذا الحوار على إنتاج نتائج ملموسة في ظل هيمنة القوى المسلحة والكيانات السياسية القائمة على الأرض، والتي قد لا تكون مستعدة للتنازل عن امتيازاتها لصالح رؤية وطنية توافقية.
2. التكامل الأمني: حلم الجيش الموحد وواقع الميليشيات يشكل “التكامل الأمني بين الشرق والغرب” أحد أهم بنود البيان الدولي، وهو الهدف الذي ظل بعيد المنال منذ سقوط نظام القذافي.
ففي الشرق، تتحكم القوات المسلحة الليبية بقيادة المشير خليفة حفتر، التي تحولت إلى كيان عسكري واقتصادي متكامل، فيما يسود في الغرب حالة من التشرذم بين ميليشيات وكتل مسلحة متنافسة، وإن كانت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس قد عززت قبضتها الأمنية مؤخراً. تحقيق تكامل حقيقي يتطلب نزعاً شاملاً للسلاح وتوحيداً للهياكل القيادية، وهي عملية شائكة لم تنجح أي مفاوضات سابقة في إنجازها.
3. المؤسسات الموحدة: اختبار الإرادة السياسية يبقى توحيد المؤسسات السيادية، مثل مؤسسة النفط والمصرف المركزي، والحصول على حكومة واحدة مقبولة من الشرق والغرب، الحلم الليبي الأكبر. غير أن هذا الهدف يصطدم بواقع انقسام عميق. فمجلس النواب المدعوم من الشرق لا يعترف بحكومة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، بينما يرفض المجلس الأعلى للدولة في الغرب أي إجراءات من طرف واحد. لجنة “6+6” المشتركة بين المجلسين والمكلفة بوضع القوانين الانتخابية لم تعلن عن أي تقدم ملموس، مما يزيد من تعقيد المرحلة الأولى من خارطة الطريق المتعلقة بالإطار الانتخابي.
ليبيا.. ساحة للتنافس الدولي والإقليميلا يمكن فهم تعقيدات المشهد الليبي بمعزل عن الصراعات الإقليمية والدولية التي تجعل من البلاد ساحة لتصفية الحسابات. فالتنافس الأمريكي-الروسي يتقاطع مع صراعات أخرى، أبرزها النزاع بين تركيا واليونان حول ترسيم الحدود البحرية واستغلال الغاز في شرق المتوسط، حيث توجد ليبيا في قلب هذه المعادلة بموجب اتفاقيتها المثيرة للجدل مع أنقرة.
هذه التداخلات تجعل من أي مسار سياسي محض رهينة لتوازنات القوى الخارجية، التي قد لا يكون همها الأول تحقيق الاستقرار لليبيا بقدر ما هو حماية مصالحها الاستراتيجية.مستقبل غامض.. بين منطق القوة وإرادة السلامرغم الدعم الدولي الظاهر، فإن الآراء بين المحللين الليبيين منقسمة حول فرص نجاح خارطة الطريق الجديدة. فبينما يرى بعضهم أن الغموض الزمني “انعكاس طبيعي لتشابك العوامل الداخلية والخارجية” ويستدعي التريث، كما يوضح أستاذ العلوم السياسية أحمد الفايدي، يذهب آخرون مثل الباحث عيسى اهمومه إلى أن الخطة “ليست سوى مبادرة عامة” تكرر فشل المبادرات السابقة في ظل غياب الآليات الملزمة.
ويشير اهمومه إلى تحولات عميقة في موازين القوى الداخلية، حيث عززت حكومة الدبيبة منتهية الولاية قبضتها على طرابلس، بينما تحولت المنطقة الشرقية إلى كيان سياسي واقتصادي متكامل.ليبيا اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم.
خارطة الطريق الأممية تمثل فرصة جديدة، ربما تكون الأخيرة، لإنقاذ البلاد من براثن الانقسام والصراع المسلح. لكن نجاح هذه الخارطة لا يعتمد فقط على الدعم الدولي أو على مهارة الوساطة الأممية، بل على عامل حاسم وغائب إلى حد كبير: الإرادة السياسية الحقيقية لدى الفاعلين الليبيين الرئيسيين للتضحية بمصالحهم الضيقة والجزئية من أجل مصلحة وطنية عليا. في غياب هذه الإرادة، ومع استمرار ليبيا كرقعة شطرنج في صراعات القوى الكبرى، يبدو أن الانتخابات المنشودة والاستقرار الموعود سيظلان حلماً بعيد المنال، بينما يستمر الليبيون في دفع ثمن حالة اللااستقرار التي أنهكت البلاد وشعبها لأكثر من عقد من الزمان.