ليبيا في ذيل التصنيف العالمي للرعاية الصحية: أزمة بنية تحتية وبشريّة تهدد المواطن
ليبيا تحتل مراكز متأخرة عالمياً وعربياً في تصنيف أنظمة الرعاية الصحية لعام

ليبيا 24
ليبيا تحتل مراكز متأخرة عالمياً وعربياً في تصنيف أنظمة الرعاية الصحية لعام 2025.صورة قاتمة في مرآة التقييم الدوليليبيا 24 –
كشف التقرير السنوي لمجلة “CEOWORLD” المتخصصة عن تصنيف أنظمة الرعاية الصحية في العالم لعام 2025، النقاب عن وضع صحيّ مأزوم في ليبيا، حيث وجدت البلاد نفسها في مراكز متأخرة جداً على المستويين العربي والعالمي. التقرير، الذي يُعدّ مرجعاً مهماً لتقييم الكفاءة الصحية للدول، وضع ليبيا في المرتبة 103 عالمياً من بين 110 دولة شملها التصنيف، لتحتل بذلك المركز الثامن بين أكثر الدول تخلفاً على مستوى العالم في هذا القطاع الحيوي، متخلفة حتى عن جاراتها الأفريقية مثل السودان والكونغو والكاميرون وأوغندا. هذه النتائج تؤشر على عمق الأزمة الهيكلية التي يعاني منها النظام الصحي الليبي، والتي تتفاقم بسبب سنوات من عدم الاستقرار السياسي والأمني والانهيار الاقتصادي.معايير التصنيف: لماذا تأخرت ليبيا إلى هذا الحد؟يعتمد تصنيف “CEOWORLD” على مجموعة معقدة ومتداخلة من المعايير التي تقيس مدى متانة وفعالية الأنظمة الصحية، وهي المعايير نفسها التي كشفت عن مواطن الضعف الهيكلي في ليبيا. وتشمل هذه المعايير:· البنية التحتية للرعاية الصحية: وهو المعيار الذي يقيس جودة وسعة المستشفيات والعيادات والشبكات الصحية المنتشرة في أنحاء البلاد. تشير التقارير المحلية إلى أن العديد من المنشآت الصحية الليبية تعاني من الإهمال ونقص الصيانة والتجهيزات الأساسية، بعد أن تعرضت أعداد منها للتدمير خلال سنوات الصراع.· الكوادر الطبية والتمريضية: حيث يقيس المؤشر كفاءة وكثافة الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين. شهدت ليبيا هجرة كبيرة للعقول الطبية والخبرات الصحية إلى خارج البلاد بحثاً عن الاستقرار وفرص أفضل، فيما يعاني القطاع من ندرة في الكوادر المدربة حديثاً.· توافر الأدوية وتكلفتها: وهو معيار حاسم يقيس إمكانية حصول المواطن على الأدوية الأساسية بأسعار معقولة. تعاني ليبيا من أزمات متكررة في نقص الأدوية، خاصة المزمنة والخاصة بالأمراض النادرة، مما يضطر المرضى إلى اللجوء لاستيرادها بشكل شخصي بتكاليف باهظة.· جاهزية الحكومة والاستجابة للأزمات: يقيس هذا المحور قدرة النظام الصحي على التنظيم الفعال والاستثمار في الوقاية والتصدي للطوارئ الصحية. مع تشرذم المؤسسات وضعف التمويل، أصبحت الاستجابة لأي أزمة صحية، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19، محدودة للغاية.· العوامل البيئية وأنماط الحياة: ويشمل إمكانية الحصول على مياه نظيفة وخدمات الصرف الصحي، والحد من المخاطر الصحية البيئية. تعطل خدمات البنية التحتية الأساسية في العديد من المدن الليبية يزيد من العبء الصحي على المواطن والنظام الصحي معاً.مقارنة عربية: فجوة واسعة وتقدم للجوارفي المقابل، يظهر التقرير صورة مغايرة تماماً لدول عربية أخرى، مما يوسع من هوة الأداء الصحي بين ليبيا وجيرانها. فقد تصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة الترتيب العربي، وجاءت في المركز الـ17 عالمياً، تليها المملكة العربية السعودية في المركز الـ37 عالمياً، مما يعكس استثمارات هائلة وجهوداً متواصلة لتطوير البنية التحتية الصحية وتبني أحدث التقنيات.الأمر الأكثر إيلاماً هو تقدم دول عربية شقيقة شهدت هي الأخرى ظروفاً صعبة، لكنها استطاعت تحقيق تقدم ملحوظ. فحسب بيانات التقرير، تقدم العراق بشكل لافت، حيث قفز 40 مركزاً في التصنيف ليحتل المرتبة 79 عالمياً، متفوقاً بذلك على ليبيا بفارق شاسع. كما سبقت ليبيا في الترتيب العربي دول مثل تونس ولبنان والأردن وسلطنة عمان، وهي دول ذات اقتصادات محدودة، لكنها أولت قطاع الصحة أولوية واضحة.هذه المقارنة تضع ليبيا في ذيل القائمة العربية، حيث احتلت المرتبة الخامسة عشرة عربياً، متقدمة فقط على السودان وفقاً للتصنيف المذكور، وهو ما يمثل نداء إيقاظاً صارخاً للمسؤولين والمعنيين.تحليل الواقع الليبي: جذور الأزمة وتداعياتهايعود تدهور النظام الصحي في ليبيا إلى جملة من العوامل المتشابكة. فبعد عام 2011، دخل القطاع في دوامة من التدهور نتيجة عدم الاستقرار السياسي والانقسام المؤسسي. توقف العديد من مشاريع التطوير، وتعثرت عمليات الصيانة، وتضاءلت الميزانيات المخصصة للصحة. أدى الصراع المسلح إلى تدمير منشآت صحية بالكامل في بعض المناطق، وإلحاق أضرار جسيمة بأخرى.النتيجة المباشرة لهذا التدهور هي معاناة المواطن الليبي اليومية. فبالإضافة إلى صعوبة الحصول على الخدمة الأساسية، يضطر الكثيرون إلى السفر للخارج لتلقي العلاج على نفقتهم الخاصة، مما يشكل عبئاً مالياً هائلاً على الأسر ويستنزف مدخراتها. كما أن تراجع جودة الخدمات الوقائية يزيد من مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض.خارطة الطريق: هل من أفق للإصلاح؟الخروج من هذا المأزق يتطلب إرادة سياسية حقيقية واعتبار الصحة أولوية وطنية عليا، تتجاوز الخلافات. يمكن تلخيص أولويات الإصلاح في:1. إعادة التوحيد والاستقرار للمؤسسات الصحية: وذلك من خلال دعم وزارة الصحة بحكومة الوحدة الوطنية لتكون قادرة على قيادة القطاع في كافة أنحاء البلاد بشكل منسق.2. ضخ استثمارات عاجلة: لتأهيل البنية التحتية المتضررة، وتوفير التجهيزات الطبية الحديثة، وتأمين مخزون استراتيجي من الأدوية الأساسية.3. وقف نزيف الكفاءات واستقطابها: عبر تحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي مادياً ومعنوياً، وخلق بيئة عمل آمنة ومشجعة.4. التحول نحو الرقمنة والطب الحديث: تبني أنظمة معلومات صحية موحدة يمكن أن تسهل متابعة المرضى وتحسين توزيع الخدمات.5. تعزيز الشراكات الدولية: مع المنظمات العالمية المتخصصة لدعم برامج التأهيل والتدريب والحصول على المساعدات الفنية.تصنيف “CEOWORLD” لعام 2025 ليس مجرد أرقام، بل هو تشخيص لواقع مرير. تأخر ليبيا إلى المرتبة 103 عالمياً في جودة الرعاية الصحية هو جرس إنذار لا يمكن تجاهله. الأزمة الصحية تمس حياة كل مواطن وتشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الليبي. إن معالجة هذه الأزمة ليست رفاهية، بل هي خطوة أساسية على طريق إعادة بناء الدولة واستعادة الاستقرار، وهي مسؤولية تتحملها الحكومة والمجتمع الدولي معاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.