ليبيا

إدريس احميد يكتب: خارطة طريق ليبيا.. متى الحل؟

ليبيا لم تكن تملك مشروعًا وطنيًا واضحًا لإدارة المرحلة الانتقالية

ليبيا 24:

على مدار أربعة عشر عامًا، لا تزال الأزمة الليبية تراوح مكانها، وتتأرجح بين محاولات تسوية متعثرة، وصراعات داخلية معقدة، وتدخلات إقليمية ودولية حولت البلاد إلى ساحة تصفية حسابات، أكثر منها ساحة لبناء وطن.

منذ عام 2011، تولى إدارة الملف الليبي عشرة مبعوثين أمميين، استطاع من بينهم الألماني مارتن كوبلر تحقيق اتفاق الصخيرات 2015، والأمريكية ستيفاني ويليامز الدفع نحو اتفاق جنيف.

غير أن هذه الاتفاقيات، رغم أهميتها، لم تكن سوى محاولات لإدارة الأزمة لا لحلها، وسط تعقيدات الواقع الليبي وغياب الإرادة الوطنية الجامعة.

حقيقة واضحة لا لبس فيها

منذ بداية الأزمة، كان جليًا أن ليبيا لم تكن تملك مشروعًا وطنيًا واضحًا لإدارة المرحلة الانتقالية، في ظل التدخل العسكري الأجنبي بقيادة الناتو، وغياب التفاهم بين الفرقاء المحليين.

ما حدث لاحقًا من تفشي خطاب الانتقام، الإقصاء السياسي، التهجير، وتصفيات الحسابات، ساهم في ترسيخ الانقسام، وفتح الباب أمام تيارات سياسية ـ أبرزها تيار الإسلام السياسي ـ للهيمنة على المشهد بدعم من تشكيلات مسلحة، سخرت لتحقيق أهداف ضيقة، على حساب الوطن والمواطن.

وقائع ثابتة على الأرض

لم تعد الأزمة الليبية بحاجة إلى تحليل معقد، فقد أصبحت أسبابها وجذورها واضحة للجميع:

الانتشار العشوائي للسلاح، وتحكم الميليشيات في مفاصل الدولة، لا سيما في العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية.

تجربة بنغازي.. نموذج لمكافحة الفوضى:

ما حدث في مدينة بنغازي بعد 2011 يمثّل تجربة صارخة وواقعية على مخاطر ترك السلاح خارج سيطرة الدولة، حيث سيطرت جماعة أنصار الشريعة على المدينة، وبسطت نفوذها فيها، ومارست الإرهاب والقتل بحق الكفاءات الأمنية والثقافية والإعلامية ونشطاء المجتمع المدني.

في ظل هذا الواقع، انطلقت عملية عسكرية وطنية بقيادة القيادة العامة للجيش الليبي، وبدعم شعبي واسع، لاستعادة الأمن وتحرير المدينة من الإرهاب.

لم تتوقف العملية عند بنغازي، بل امتدت لتشمل المنطقة الشرقية، والجنوبية، والوسطى، وصولاً إلى شمال شرق البلاد، حيث نجحت القوات المسلحة في بسط الأمن، وطرد الجماعات المتطرفة، وفرض الاستقرار في مساحات واسعة من البلاد.

هذه التجربة أثبتت لليبيين أن الأمن لا يمكن أن يتحقق في ظل سطوة الميليشيات، وأن بناء دولة القانون يبدأ من استعادة هيبة الدولة وسيادتها على كامل التراب الوطني.

الأمم المتحدة.. إدارة أزمة أم إنتاج حلول؟

من الواضح أن دور البعثة الأممية بات محصورًا في إدارة الأزمة، وليس حلها، في ظل انقسام مجلس الأمن الدولي، الذي أفقد المنظمة حيادها وقدرتها على تسمية الطرف المعطل للحل.

محاولات “إرضاء الجميع” لن تنتج تسوية حقيقية، بل تعمّق الأزمة، خاصة مع استمرار سيطرة قوى الأمر الواقع المدعومة بالسلاح.

وهنا يتأكد للجميع أن الأمم المتحدة لن تنجح طالما لم يتفق الليبيون على رؤية وطنية جامعة تنبع من الداخل، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية.

الدور الأمريكي.. مصالح ضيقة تحت غطاء الاستقرار

لعبت الولايات المتحدة دورًا مركزيًا منذ تدخل الناتو في 2011، لكن تعاملها مع الملف الليبي بقي محكومًا بمصالحها الضيقة.

من إدارة أوباما إلى بايدن، مرورًا بترامب، لم تختلف الاستراتيجية كثيرًا: أولوية لمصالح واشنطن، وخطابات دعم استقرار ليبيا بقيت حبرًا على ورق.

في المرحلة الحالية، يتصدر المشهد مستشار ترامب، مسعد بولس، الذي زار ليبيا مؤخرًا، باحثًا عن فرص اقتصادية لعائلته – بحسب تسريبات وتقارير – أكثر من بحثه عن استقرار سياسي فعلي.

أمام بولس نموذجان:

القيادة العامة للجيش الليبي التي تسيطر على مناطق واسعة وتتمتع بدعم شعبي.

حكومة الوحدة الوطنية التي تواجه أزمات متكررة وانهيارًا أمنيًا متزايدًا داخل العاصمة.

ولذلك فإن الرهان على موقف أمريكي نزيه يبدو – حتى اللحظة – غير واقعي، ما دامت السياسة الخارجية تُدار وفق مبدأ “أمريكا أولاً”، وليس “استقرار ليبيا أولاً”.

خارطة الطريق الأممية.. هل من جديد؟

في 21 أغسطس، أقرّ مجلس الأمن خارطة طريق جديدة، بدت في ظاهرها محاولة جادة لكسر الجمود السياسي. إلا أن التجارب السابقة علمتنا أن التأييد الدولي وحده لا يكفي، ما لم يقترن بإجراءات فعلية على الأرض، وضغوط حقيقية على المعرقلين، وعقوبات تنفذ لا تؤجل.

أولى خطوات الخارطة بدأت باتفاق بين مجلسي النواب والدولة على إعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات خلال عشرة أيام، وهي خطوة يمكن وصفها بـ”بالون اختبار”، لقياس جدية الأطراف واستعدادها للمضي في استكمال المسار، بما في ذلك تعيين المناصب السيادية.

لكن الشك لا يزال قائمًا في نوايا الأطراف السياسية، التي تدرك أن أي تغيير حقيقي سيقلب معادلة النفوذ والسلطة.

الخلاصة.. متى الحل؟

السؤال الذي يردده الليبيون يوميًا: متى الحل؟

الإجابة الصادقة: حين تتوفر الإرادة الوطنية أولًا، والدولية ثانيًا، لوضع حد للانقسام، ونزع السلاح من الميليشيات، وتوفير مناخ آمن لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية شفافة.

دون ذلك، ستبقى خارطة الطريق مجرد وثيقة أخرى، توضع على رفوف الأمم المتحدة، في انتظار مبعوث أممي جديد، ومرحلة جديدة من إدارة الأزمة.

ليبيا لا تحتاج إلى مزيد من المؤتمرات، بل تحتاج إلى قرار شجاع، ينبع من الداخل، لبناء دولة تحترم نفسها ومواطنيها.

فما وصل إليه الليبيون اليوم من أزمات أمنية واقتصادية، وفساد مستشري، وتهديد متصاعد للأمن المجتمعي، يدق ناقوس الخطر. الوقت لا يرحم، والدول التي كانت تقف معنا على خط البداية سبقتنا بمراحل، بينما نحن لا نزال ندور في حلقة مغلقة، ومستقبلنا يزداد غموضًا.

وإذا استمر فشل المسار السياسي، فليس أمامنا إلا الاعتراف بالحقيقة:

أن الحل يجب أن يكون ليبيًّا أولاً، وأن الأولوية يجب أن تُمنح للأمن والاستقرار، قبل الانشغال بشعارات ديمقراطية لا يمكن تطبيقها في بيئة يسودها السلاح والانقسام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى