
منذ سنوات تعيش ليبيا وضعًا معقدًا بفعل تحولها إلى واحدة من أبرز نقاط عبور المهاجرين غير النظاميين نحو أوروبا. إلا أن التحولات الأخيرة في الملف، وارتفاع أعداد المهاجرين بشكل ملحوظ، أثارا موجة من القلق الشعبي والسياسي، لا سيما في ظل ما يُتداول عن مشاريع دولية تهدف إلى توطين المهاجرين داخل البلاد، الأمر الذي ينذر بتداعيات عميقة على السيادة الوطنية، والتماسك الاجتماعي، والأمن القومي.
تشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة إلى وجود أكثر من 704 ألاف مهاجر غير نظامي في ليبيا، يشكّل الأطفال والنساء حوالي 21% منهم. وتعد البلاد نقطة عبور مركزية للمهاجرين الفارين من النزاعات أو الأوضاع الاقتصادية الصعبة في إفريقيا جنوب الصحراء، نحو الشواطئ الأوروبية عبر البحر المتوسط.
خلال الفترة ما بين 21 إلى 27 سبتمبر 2025 فقط، تم اعتراض ما يقارب 1000 مهاجر وإعادتهم إلى الأراضي الليبية، في مؤشر واضح على استمرار تدفق المهاجرين بوتيرة مرتفعة.
تصاعد القلق الشعبي ورفض التوطين
شهدت مدن ليبية كبرى، مثل طرابلس ومصراتة، احتجاجات شعبية واسعة رفضًا لما وصفوه بـ”محاولات لتوطين المهاجرين” في البلاد. وتطورت هذه الاحتجاجات إلى حملات أمنية قامت خلالها الأجهزة المعنية بمداهمة مقار تجمعات المهاجرين، واقتياد أعداد كبيرة منهم إلى أقسام الشرطة.
الحراك المدني المعروف باسم «لا للتوطين» عبّر عن موقفه الرافض لأي مشاريع توطين، معتبرًا أنها “مؤامرة خطيرة تستهدف السيادة الليبية وتهدد مستقبل الأجيال”، واتهم جهات خارجية بمحاولة فرض هذا التوجه على ليبيا.
مبادرة العودة الطوعية وعودة الشبهات
في خضم هذا الجدل، أُعلن في طرابلس عن إطلاق مبادرة جديدة لتخصيص مقر لتجميع المهاجرين الراغبين في العودة الطوعية إلى بلدانهم. هذه الخطوة، التي جاءت بدعم من جهات أوروبية، أثارت استغراب وانتقادات عدد من المختصين في ملف الهجرة.
الحقوقي الليبي طارق لملوم حذّرفي تصريحات رصدها #لـيبيا_24 من تكرار سيناريو مشروع “مركز التجميع والمغادرة” الذي أُطلق عام 2018 بدعم من الاتحاد الأوروبي بقيمة 6 ملايين دولار، ولم يصمد أكثر من عام. وقد أُغلق المركز حينها بعد اندلاع الحرب في طرابلس عام 2019، دون تحقيق أهدافه، مما أدى إلى ضياع التمويل المخصص له دون نتائج فعلية.
يرى لملوم أن إنشاء مركز جديد في طرابلس، بالتنسيق مع جهات أوروبية، يجري حاليًا في غياب السلطات المحلية وصمت حكومة الدبيبة ، ما يثير علامات استفهام بشأن الشفافية وأهداف المشروع الحقيقية.
مراكز الإيواء القائمة وجهود الترحيل
يتساءل مراقبون عن جدوى إنشاء مركز جديد لتجميع المهاجرين في ظل وجود مراكز قائمة مثل طريق السكة وتاجوراء، إضافة إلى الرحلات التي تُسيَّر من مطارَي بنغازي وسبها لإعادة المهاجرين إلى بلدانهم بالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة.
الجهود الأمنية شرق البلاد
من جانب آخر، يواصل جهاز مكافحة الهجرة غير المشروعة في شرق ليبيا جهوده لاحتواء محاولات العبور إلى أوروبا. فقد أعلن الجهاز عن إحباط محاولة للهجرة عبر شواطئ منطقة التميمي، وضبط 48 مهاجرًا من جنسيات مختلفة، تمت إحالتهم إلى فرع الجهاز بمدينة درنة لاستكمال الإجراءات القانونية كما تم توقيف مهاجرين آخرين في مدينة القبة لمخالفتهم شروط الإقامة.
أبرزت التطورات الأخيرة تنامي دور البعثات الأوروبية في رسم ملامح ملف الهجرة في ليبيا. ووفقًا للحقوقي طارق لملوم، عُقد اتفاق مباشر بين السفير الأوروبي ورئيس جهاز حرس الحدود لتحويل مبنى سكني في طرابلس إلى مركز لتجميع المهاجرين، دون الرجوع إلى الجهات الرسمية المختصة. وهو ما يُعد تدخلًا مباشرًا في الشأن السيادي للبلاد.
وهكذا وعلى مدار سنوات شكل ملف الهجرة في ليبيا تحديًا استراتيجيًا يمس الأمن القومي والهوية الوطنية. وفي ظل تفاقم الظاهرة وغياب استراتيجية وطنية موحدة، فإن الاستجابة الفعالة تتطلب وضع سياسة وطنية واضحة للهجرة، تأخذ في الاعتبار البعد الإنساني دون المساس بالسيادة.
كما يتعين رفض أي مشاريع دولية تُفرض دون تنسيق حكومي كامل وشفاف وتعزيز التنسيق بين الجهات الأمنية والإنسانية لضمان حقوق المهاجرين وعدم استغلالهم وتفعيل الرقابة على التمويلات الدولية وضمان عدم تكرار إخفاقات المشاريع السابقة.



