دولىليبيا

الحكومة الليبية تحذر بعثة الأمم المتحدة من عواقب “الانحياز” و”التدخل في الشؤون الداخلية”.

الحكومة الليبية ترفع شكوى رسمية للأمم المتحدة ضد "تجاوزات" بعثتها وتتهمها بـ"خرق السيادة"

بنغازي – ليبيا 24

في خطوة غير مسبوقة من حيث الحدة والوضوح، أعلنت الحكومة الليبية تقديم شكوى رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وأعضاء مجلس الأمن الدولي، ضد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، متهمة إياها بـ “التجاوزات السافرة” و”الانحراف الخطير” عن ولايتها، في تطور يفضي إلى أزمة ثقة عميقة تهدد أسس التعاون بين الدولة والمنظمة الدولية.

لم تترك الحكومة الليبية، في وثيقتها الاحتجاجية، مجالاً للالتباس. لقد استخدمت لغة دبلوماسية حادة، لكنها مباشرة، لوصف استيائها من أداء البعثة الأممية، وخاصةً أداء المبعوثة الخاصة بالإنابة، ستيفاني تيتيه. وجاء في نص الشكوى أن تصرفات البعثة تشكل “نهجًا عبثيًا يمثل انحرافًا خطيرًا عن المهام الموكلة”، مؤكدةً أن هذا المسار “يقوّض الثقة في حيادها ومصداقيتها، ويخلّ بالاحترام المتبادل”.

هذه الخطوة لا تعكس فقط تدهوراً في العلاقة العملية على الأرض، بل تمثل تصعيداً استثنائياً في الخطاب الرسمي الليبي تجاه هيئة دولية كان يُنظر إليها، في السابق، كشاهد محايد ووسيط مقبول من جميع الأطراف. يبدو أن “صبر بنغازي” قد نفد، وفقاً لمراقبين.

جذور الأزمة: من الدعم التقني إلى التفويض السياسي الممتد

بحسب المحللين، فإن جذر الأزمة يكمن في اختلاف جوهري في تفسير دور البعثة الأممية وحدود ولايتها.

الدكتور خالد محمد الحجازي، المحلل السياسي، يرى أن “الأزمة تنبع من اختلاف جوهري في فهم طبيعة الدور الأممي؛ فالحكومة تعتبر أن البعثة مطالبة بتقديم الدعم التقني والاستشاري فقط، بينما تتعامل البعثة مع ولايتها باعتبارها تفويضًا سياسيًا واسعًا لمتابعة العملية الانتقالية والإصلاح المؤسسي”.

ويضيف “الحجازي” في تصريح صحفي: “هذه الشكوى لا تمثل مجرد احتجاج إداري، بل تُعد مؤشرًا على أزمة تفاعلية بين السيادة الوطنية والمشروعية الدولية، تتطلب معالجة متوازنة تحفظ استقلال القرار الليبي، وتعيد ضبط العلاقة مع الأمم المتحدة”.

اتهامات بالانحياز وتجاهل المؤسسات الشرعية

من جهة أخرى، يسلط المراقبون الضوء على شكوى متكررة من الحكومة الليبية، وهي أن البعثة الأممية تتجاهل عمداً مؤسساتها الشرعية، معطيةً اهتماماً غير متناسب لأطراف أخرى، لا سيما تلك الموجودة في طرابلس.

في هذا الصدد، يقول المحلل السياسي كامل المرعاش: “البعثة الأممية لا تتعامل مع كل الأطراف المحلية، بل تولي اهتمامًا غير مبرر ببعض الأقليات العرقية، يصل، أحيانًا، إلى دفعها للعب دور أكبر من حجمها، وفي الوقت ذاته تتجاهل الحكومة ذات المنشأ الليبي الخالص، التي صادق عليها البرلمان الشرعي من خلال صلاحياته الدستورية”.

ويكمل “المرعاش” حديثه بتفصيل أكثر إيلاماً: “رئيسة البعثة ونائبتها تزوران بنغازي باستمرار، وتؤمّن لهما حكومة الدكتور أسامة حماد كل ما يتطلبه الأمر من كرم الضيافة والاستقبال، والتنقل والأمن، إلا أن ذلك يُقابل، منذ زمن، بتجاهل واضح لعمل الحكومة، بل إن البعثة تتجاهل إنجازاتها في تقاريرها، وأحيانًا توجه لها ألذع الانتقادات”.

محاور التجاوز: تدخلات ملموسة في سيادة الدولة

لم تكن شكوى الحكومة الليبية عامة أو عاطفية، بل قدمت قائمة محددة من “التجاوزات” التي تراها انتهاكاً صريحاً للسيادة:

1. العبث بمؤسسات الدولة المستقلة:

اتهمت الحكومة البعثة الأممية بالتدخل في شؤون المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، ومحاولة فرض آليات لتشكيل مجلسها. هذا التدخل، كما ترى الحكومة، “يمثل انتهاكاً للتشريعات الليبية ومساساً باستقلال المؤسسات الوطنية”. كما انتقدت تناول البعثة لموضوعات حساسة مثل الترتيبات الأمنية والتعيينات في مؤسسات إنفاذ القانون والمصرف المركزي، معتبرةً ذلك “تجاوزاً صريحاً لحدود اختصاص البعثة”.

2. اختراق السيادة القضائية:

شكلت التصريحات المتعلقة بالسلطة القضائية نقطة احتكاك حادة. حيث وجهت الحكومة انتقاداً مباشراً وغير مسبوق إلى المبعوثة تيتيه، متهمة إياها بـ “تجاوز حدود مهامها” ووصفها السلطة القضائية الدستورية بالازدواج. وأكد البيان الرسمي أن هذا التصريح “يمثل انحرافاً خطيراً عن الحياد المفترض، وتدخلاً سافراً في شؤون القضاء الليبي المستقل”، وهو ما يعتبر انتهاكاً للمواثيق الدولية الخاصة باستقلال القضاء.

3. هندسة اجتماعية تهدد النسيج الوطني:

اعتبرت الحكومة أن محاولات بعض مسؤولي البعثة “إعادة تعريف المجتمع الليبي” على أسس فئوية أو ثقافية أمر في غاية الخطورة. وحذرت من أن مثل هذه المقاربات “تهدد وحدة النسيج الاجتماعي وتعيد إنتاج النزعات الانقسامية التي تجاوزها الليبيون بإرادتهم”. هذا الموقف يعكس خشية رسمية من أن تكون البعثة الأممية تتبنى أجندة خارجية تهدف إلى إعادة تشكيل الهوية الليبية بما يخدم روايات معينة على حساب الوحدة الوطنية.

4. تحول المستشارين الفنيين إلى لاعبين سياسيين:

أعربت الحكومة عن استيائها الشديد من أداء بعض مستشاري البعثة، الذين قالت إنهم “تجاوزوا مهامهم الفنية وتحولوا إلى طرف سياسي يمارس التضليل ويشوّه صورة الواقع الليبي أمام المجتمع الدولي”. ودعت إلى “مراجعة شاملة لتركيبة الفريق الاستشاري ومخرجاته”، وهو طلب يشير إلى وجود شكوك حول نزاهة ونوايا بعض العناصر العاملة ضمن البعثة.

عواقب محتملة: نحو مرحلة جديدة من التصعيد

لم تكتف الحكومة الليبية بتقديم الشكوى، بل أرفقتها بتحذير واضح من عواقب استمرار هذا النهج.

يقول “كامل المرعاش” في هذا السياق: “تصرفات البعثة لن تستمر إلى أجل غير مسمى، وربما، قريبًا، ستفقد كل امتيازاتها في السفر والتنقل داخل مناطق سيطرة حكومة الاستقرار، التي تمثل أكثر من ثلثي جغرافيا ليبيا، وعندها لن تجد البعثة من تحاور إلا بقايا حكومة عبد الحميد الدبيبة والميليشيات التي تسيطر على مدن شمال الغرب الليبي، وهذا في حد ذاته يعني عدم جدوى وجودها ووجوب رحيلها إلى غير رجعة”.

هذا التصريح يضع سيناريو عملياً على الطاولة: سحب امتيازات التنقل والعمليات من البعثة الأممية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وهو إجراء سيشل عمل البعثة فعلياً، ويحولها إلى كيان محصور في منطقة جغرافية محدودة، مما يفقدها شرعيتها كبعثة دعم لأجل “كل الليبيين”.

التمييز بين الشرعية الدستورية وإدارات الأمر الواقع

تُبرز هذه الأزمة الفجوة الواسعة بين تعامل البعثة الدولية مع الحكومة الشرعية التي تمتلك شرعية دستورية مستمدة من ثقة مجلس النواب الليبي، وتواجدها في بنغازي، وبين تعاملها مع الإدارة الموجودة في طرابلس والتي انتهت ولايتها ولا تمثل إلا إدارة أمر واقع. إن إصرار البعثة على تجاهل هذه المعادلة هو ما يغذي أزمة الثقة ويُفقدها مصداقيتها في عيون جانب رئيسي من الشعب الليبي وممثليه الشرعيين.

مبدأ الندية أساساً للعلاقة المستقبلية

طوال أزمة الثقة هذه، ظلت الحكومة الليبية مؤكدة على مبدأ أساسي: أي علاقة مستقبلية مع الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات الدولية يجب أن تقوم على مبدأ الندية والاحترام المتبادل.

وجاء في البيان الرسمي: “احترام السيادة والوحدة الوطنية والهوية الجامعة شرط أساسي لأي تعاون مع الأمم المتحدة”. كما جدّدت الحكومة دعمها لنداء الأمين العام لإعادة هيكلة البعثة، ولكن بشروط واضحة، وهي أن تحقق هذه الهيكلة “التوازن بين مناطق البلاد كافة، وترسخ مبدأ المهنية والحياد في أدائها”.

تقف العلاقة بين ليبيا والأمم المتحدة عند مفترق طرق حاسم. الشكوى الليبية ليست مجرد مناورة سياسية عابرة، بل هي صيحة تحذير من أن التعامل مع ليبيا يجب أن يتم من منطلق دعمها كدولة موحدة ذات سيادة كاملة، وليس ككيان تحت الوصاية أو محل لتجارب سياسية. وأن أي حل حقيقي يجب أن يبدأ بالاعتراف بالواقع الدستوري والقانوني، وبتعامل واضح مع الحكومة الشرعية في بنغازي، وليس مع إدارات منتهية الولاية في طرابلس.

الخطوات القادمة للأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن ستكون محورية. إما الإصغاء الجاد لمخاوف الحكومة الليبية والعمل على تصحيح المسار عبر إعادة هيكلة حقيقية للبعثة وتغيير نهجها على الأرض، أو المخاطرة بتصعيد أكبر قد يصل إلى طرد البعثة أو تجميد التعامل معها من قبل الطرف الذي يمثل الشرعية الدستورية في البلاد، مما سيدمر أي أمل باقٍ في تحقيق مصالحة وطنية تحت رعاية دولية ذات مصداقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى