اشتباكات مصراتة تهدد المدنيين وتكشف عجز حكومة الدبيبة
مليشيات حكومة الدبيبة تتصارع والمدنيون يدفعون الثمن

مواطنون بين نيران صراعات مسلحة وغياب لسلطة الدولة تدفعهم للتساؤل: إلى متى هذا العبث؟
مصراتة – ليبيا 24| في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان كابوس حرب الاقتتال الداخلي، عادت الرصاصات لتزعج سكون ليالي مدينة مصراتة، ليس في ساحات القتال البعيدة، بل في أحشائها، بين أحيائها السكنية، حيث يُفترض أن يكون المواطن في منأى عن الخطر. اشتباكات عنيفة، استخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، مرة أخرى بين فصيلين ينضويان تحت لواء حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية، لتكشف أن “الدولة” ما زالت رهينة إرادة المسلحين، وأن الحكومة التي يفترض أنها تمثل الشرعية عاجزة عن فرض هيبتها، بل وخانعة لإرادة هذه المليشيات.
ليلة رعب في أحضان المدينة
لم تكن ليلة الخميس في مصراتة كأي ليلة. دوي الانفجارات وصرير الرصاص هو الموسيقى التصويرية التي رافقت سهرة السكان في منطقتي “السكت” و”الغيران” جنوب المدينة. لم تكن الاشتباكات بعيدة، بل كانت على عتبات البيوت، حيث وصلت الشظايا والقذائف إلى محيط مستشفى الأورام، مؤسسة طبية يفترض أن تكون بمأمن عن دوائر العنف.
لم يكتفِ المسلحون التابعون لـ”قوة العمليات المشتركة” و”الكتيبة 24 مشاة” بتبادل الاتهامات حول مناطق النفوذ والانتشار، بل جعلوا من الشوارع ساحة حرب، ومن المدنيين دروعاً بشرية. أُغلقت الطرقات، وتوقفت حركة الحياة، وحلّ الخوف مكان الأمان. حتى مطار مصراتة لم يسلم من تبعات هذا الصراع العبثي، حيث أجلت الرحلات الجوية، ليُحاصر السكان في مدينة تحترق من داخلها.
ثمن باهظ يدفعه الأبرياء
لم تكن الاشتباكات مجرد حشود عسكرية وتبادل لإطلاق النار، بل كانت كارثة إنسانية صغيرة. وفقاً لتقارير منظمات حقوقية محلية، لم يسلم المدنيون من ويلات هذا القتال. أرقام أولية تتحدث عن إصابة 11 مدنياً على الأقل، بينهم أطفال وعمال مهاجرون أفارقة، كانت أجسادهم الطريفة ضحية للرصاص العشوائي وشظايا القذائف.
الطفل “فارس علي أبوفارس” وغيره من الأطفال الذين لم تذكر أسماؤهم، تحولوا إلى أرقام في سجل إصابات مستشفى طوارئ مصراتة، ضحايا لصراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل. ممتلكات خاصة وعامة تضررت، ونفسيات المواطنين تاهت بين الخوف والقلق، وسؤال واحد يتردد: من يحمينا؟ من يضمن أن ليلة الغد لن تكون مثل ليلة الأمس؟
حكومة الدبيبة.. بين التصريحات الاستعراضية والعجز الفاضح
في رد فعلٍ جاء متأخراً ومتناقضاً مع حجم الكارثة، أصدرت وزارة دفاع حكومة الدبيبة قراراً بمنع خروج عناصر “الكتيبة 24 مشاة” من مقراتهم، وفتح تحقيق عاجل. هذه القرارات، التي تطرح في وسائل الإعلام، تبدو للكثير من الليبيين مجرد استعراض شكلاني لا يحمل أي معنى على أرض الواقع.
فالحكومة المنتهية الولاية أصلاً، والتي تفتقر إلى أي سيطرة حقيقية على الأرض، تظهر عاجزة عن حلّ أزمات البلاد الأساسية، فكيف بها أن توقف نزيف الاقتتال بين أذرعها المسلحة؟ الخضوع المتكرر لإرادة المليشيات، وعدم القدرة على بناء جيش وطني موحد يخضع لسلطة الدولة، يجعل مثل هذه القرارات الحازمة مجرد حبر على ورق، بل ويعطي شرعية مستمرة لوجود هذه الجماعات المسلحة تحت مظلتها.
المليشيات.. دولة داخل الدولة
تفاصيل الاشتباكات تكشف العمق المأساوي للأزمة. فـ”قوة العمليات المشتركة” و”الكتيبة 24 مشاة” كلاهما تابعان رسمياً لحكومة الوحدة الوطنية. الأولى تخضع لإمرة “عمر بوغدادة”، والثانية لإمرة “نجيب غباق”. الصراع هنا ليس بين الخير والشر، بل هو نزاع على النفوذ والمناطق والموارد، تديره جماعات مسلحة تلبس ثياب المؤسسة الرسمية.
الأخطر من ذلك، أن “الكتيبة 24 مشاة” التي تعتذر لاحقاً لأهالي مصراتة في بيان مليء بالحسرة والدفاع عن النفس، هي في الأصل من بقايا كتائب الثوار التي تم إلحاقها بأجهزة الدولة، في محاولة فاشلة لدمجها. هذا الدمج الشكلي، دون نزع سلاحها وإخضاعها لقيادة موحدة، أنتج وحوشاً بيروقراطية مسلحة، تمتلك سلاحاً وراتباً حكومياً وشرعية مزيفة، لتستمر في ممارسة سيطرتها على الأرض.
المواطن الليبي.. رهينة في وطنه
في خضم هذا المشهد، يبرز السؤال الأكبر: أين مكان المواطن الليبي من كل هذه المعادلات؟ إنه الطرف المنسي، الضحية الدائمة التي تدفع ثمن صراعات لا تعنيه. لقد سئم الليبيون من وعود السياسيين، ومن خطابات المصالحة التي تذهب أدراج الرياح، ومن مشاهد الاقتتال التي تعيد إنتاج نفسها في طرابلس وسبها ومصراتة وغيرها.
يعيش المواطن حبيساً بين خيارين مرّين: إما الصمت والخوف على حياته وأسرته، أو الهروب إلى المجهول عبر البحر. لقد تحولت ليبيا، بلد الثروات والإمكانيات، إلى سجن كبير، حيث تحكمه عصابات مسلحة تتقاتل فوق أنقاض الدولة، وتتقاذف الحكومة المنتهية الولاية التهم والاتهامات دون أن تملك أدنى قدرة على تغيير الواقع.
مسؤولية تاريخية وسؤال المحاسبة
تحمل حكومة عبد الحميد الدبيبة، بحكم موقعها وشرعيتها المنتهية أصلاً، المسؤولية الكاملة والأخلاقية عن كل قطرة دماء تسيل في شوارع مصراتة وكل ليبيا. خضوعها الواضح لإرادة المليشيات، وعجزها المطبق عن إجراء أي إصلاح حقيقي في المؤسسة العسكرية، جعلها شريكاً في استمرار هذه الفوضى.
إن استمرار حالة الإفلات من العقاب، التي تشجع المسلحين على التمادي في انتهاكاتهم، هو أكبر جريمة ترتكب في حق الشعب الليبي. البيان المخادع الذي يصدر هنا، والتحقيق الشكلي الذي يفتح هناك، لن يعيد الحياة إلى جريح، ولن يمحو الذعر من عيون طفل، ولن يعيد بناء منزل دمرته قذيفة طائشة.
ليل مصراتة الطويل هو مجرد حلقة في مسلسل الدم الليبي الذي لا ينتهي. المشهد يتكرر بملابسات مختلفة وأسماء متغيرة، لكن النتيجة واحدة: دمار للوطن وتمزيق لنسيجه الاجتماعي ومعاناة لا تنتهي لأبنائه. آن الأوان لأن تتحمل الحكومة المنتهية مسؤولياتها، ليس بالبيانات الصحفية، بل بإجراءات جريئة وحقيقية لنزع سلاح المليشيات وإخضاع الجميع لسلطة القانون.
أما إذا استمر هذا العبث، فإن المصير الذي ينتظر ليبيا هو مزيد من التشرذم والدمار، وسيظل المواطن الليبي، الذي يتوق لحياة كريمة في وطنه الآمن، هو الخاسر الأكبر في معركة لا يريد خوضها.


