حبس العابد يعيد الجدل حول الفساد في مؤسسات حكومة الدبيبة
النيابة العامة تحتجز وزير التعليم الليبي بتهم فساد خطيرة
ليبيا 24:
حبس وزير التعليم المكلّف يثير جدلاً حول الفساد الحكومي
القضية تتفجر مجدداً: وزير جديد.. والتهمة ذاتها
في مشهد يصفه مراقبون بأنه “تكرار مؤلم لفصول الفساد الإداري في طرابلس”، أعلنت النيابة العامة توقيف على العابد وزير التعليم المكلّف بحكومة الدبيبة منتهية الولاية، ومدير عام مركز المناهج التعليمية والبحوث التربوية، على ذمة التحقيق في قضية تتعلّق بتأخر طباعة وتوزيع الكتب المدرسية.
القرار جاء بعد سبعة أشهر فقط من صدور حكم بالسجن على الوزير السابق موسى المقريف في قضية مشابهة، وهو ما يعكس، بحسب مراقبين، “استمرار الخلل البنيوي داخل مؤسسات الدولة، وتكرار الأخطاء ذاتها دون محاسبة جذرية أو إصلاح فعلي في منظومة التعاقد والإدارة”.
وأوضحت النيابة العامة، في بيان رسمي، أنّ المتهمين أضرّا بالمصلحة العامة من خلال سوء إدارة ملف طباعة الكتب المدرسية للعام الدراسي 2025/2026، ما تسبب في حرمان نحو مليوني طالب من كتبهم الدراسية، وتأخر انطلاق العام الدراسي قرابة شهرين.
حرمان الطلاب وتأزم الأسر: المعاناة تمتد إلى الشارع الليبي
في الأحياء والمدارس، لم تكن الأخبار القانونية وحدها هي محور النقاش، بل المعاناة اليومية للطلاب والأسر التي وجدت نفسها في مواجهة أزمة تعليمية غير مسبوقة.
فبعد مرور أكثر من أسبوعين على انطلاق العام الدراسي في 20 أكتوبر، ما زالت العديد من المدارس تفتقر إلى الكتب المدرسية، وهو ما أجبر الأسر على طباعة نسخ مصوّرة على نفقتهم الخاصة، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور القدرة الشرائية.
يقول المواطن “عبدالسلام الفيتوري”، وهو أب لثلاثة أطفال يدرسون في المرحلة الابتدائية: “دفعت أكثر من 400 دينار لطباعة الكتب لأولادي، رغم أن التعليم مجاني.. لا نطالب بالكثير، فقط بحق أطفالنا في كتابهم الدراسي، فكيف نُحاسبهم في الامتحانات وهم بلا كتب؟”.
أما المعلمة “سميرة محمد” من إحدى مدارس طرابلس فتروي معاناتها قائلة: “نضطر لتصوير صفحات الكتاب من الإنترنت أو من زملاء في مدارس أخرى، والطلاب يتبادلون النسخ الورقية كأنها كنز نادر. الوضع لا يُحتمل، والتعليم ينهار أمام أعيننا”.
إجراءات رقابية.. ولكن متأخرة؟
في موازاة التحقيقات القضائية، أعلنت جهات رقابية عدة اتخاذ إجراءات موازية.
فمصرف ليبيا المركزي أعلن إيقاف المعاملات المالية الخاصة بشركة “البشير للطباعة والنشر”، المتعاقدة على توريد الكتب المدرسية، بينما قرر ديوان المحاسبة إخضاع كل المعاملات ذات الصلة برقابة مصاحبة لضمان الشفافية وحماية المال العام غير أن مراقبين يعتبرون أن هذه الإجراءات جاءت متأخرة.
يقول الباحث الاقتصادي “عبد الناصر الترهوني”:“الفساد في ملف التعليم ليس وليد اليوم، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من المحسوبية وسوء التعاقدات، ما نراه الآن هو تصحيح متأخر لخلل كان يجب أن يُعالج منذ سنوات”.
الطبلقي: القرار يحقق العدالة ويجسد هيبة القانون
من جانبها، اعتبرت النائبة عائشة الطبلقي أن قرار النائب العام بحبس الوزير المكلّف علي العابد “إجراء سليم يحقق العدالة ويجسد تطبيق القانون في المجتمع الليبي”.
وأضافت في تصريح تلفزيوني: “من غير المقبول تأخر الكتاب المدرسي مع اقتراب الامتحانات الجزئية. قضية الفساد في طباعة الكتب ليست جديدة، بل ممتدة منذ سنوات، وعلى الدولة اتخاذ إجراءات رادعة ضد المفسدين ليكونوا عبرة لغيرهم”.
وأشارت الطبلقي إلى أنّ ما يحدث في وزارة التعليم “يكشف عن أزمة إدارية متجذرة في مؤسسات الدولة”، مؤكدة أن “استمرار الفساد دون محاسبة حقيقية يُفقد المواطن ثقته في الحكومة ومؤسساتها”.
“غينيس للفساد”: انتقادات سياسية لاذعة لحكومة الدبيبة
في المقابل، شنّ عدد من الساسة والمحللين هجوماً عنيفاً على حكومة عبدالحميد الدبيبة، معتبرين أنّ هذه القضية ليست إلا حلقة جديدة في سلسلة فضائح الفساد التي طالت وزراءها.
الوكيل الأسبق لوزارة الخارجية حسن الصغير كتب بسخرية: “حكومة الدبيبة تدخل فعلياً سجل غينيس للأرقام القياسية بأكثر وزراء دخلوا السجن بتهم تتعلق بالفساد، وهي لا تزال في السلطة!”.
بينما تساءلت الصحفية ريم البركي عن قدرة الحكومة على الاستمرار قائلة:“غداً ستستيقظ حكومة الدبيبة بثلاث وزارات شاغرة؛ التعليم والعمل والخدمة المدنية. حكومة تعمل برئيس الوزراء فقط والمجتمع الدولي لا يزال يعترف بشرعيتها! أي مفارقة هذه؟”.
فراغ وزاري يهدد الأداء الحكومي
التحليل السياسي للموقف يشير إلى تداعيات عميقة قد تطال أداء الحكومة بأكملها.
المحلل السياسي محمد محفظ رأى أن البلاد “ستعاني من فراغ عميق” بعد توقيف العابد الذي يشغل ثلاث حقائب وزارية بالوكالة، قائلاً: “ثلاث وزارات مشوا في دخان سحور، هذا يعني تأخر العمل في ملفات حيوية، خصوصاً التعليم والعمل والخدمة المدنية. حكومة مترنحة لا يمكنها إدارة دولة بهذا الحجم من الأزمات”.
“الوزير المزور”: اتهامات سياسية وشعبية بالتحايل والغش
وفي نبرة أكثر حدة، وصف المحلل السياسي محمد قشوط الوزير الموقوف بأنه “مزور لشهادته العلمية مثل باقي وزراء حكومة التزوير”، مضيفاً أنّ ما حدث “يؤكد سيطرة عائلة الدبيبة على مفاصل الدولة، وتحويل الوزارات إلى أدوات لخدمة المصالح الخاصة لا العامة”.
هذا التصريح لاقى تفاعلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تصدّر وسم #قضية_الكتاب_المدرسي الترند الليبي خلال الساعات الأولى من إعلان قرار النيابة العامة، فيما تباينت آراء المواطنين بين من رأى في القرار “صحوة عدالة تأخرت كثيراً”، ومن اعتبره “مناورة سياسية لامتصاص الغضب الشعبي”.
أصوات من الشارع: العدالة الاجتماعية في اختبار جديد
في مدينة مصراتة، قال الناشط المدني “أكرم الديب” إنّ ما يحدث “يكشف عمق الفجوة بين السلطة والمواطن”.
“حين يحبس الوزير لأن الطلاب بلا كتب، فذلك يرسل رسالة مهمة مفادها أن العدالة قادرة على الوصول، ولكن يبقى السؤال: هل هي عدالة دائمة أم ظرفية؟”
وفي بنغازي، اعتبرت الطالبة الجامعية “إيمان جاب الله” أن “القضية ليست قضية كتب فقط، بل قضية ضمير غائب”.
“إذا كان وزير التعليم نفسه متورطاً في الفساد، فماذا ننتظر من باقي المؤسسات؟ نحن جيل بلا أمل إن استمر هذا العبث”.
الفساد الإداري: أزمة تتجاوز التعليم
تكرار قضايا الفساد في وزارات الحكومة منتهية الولاية لم يعد استثناءً بل أصبح سمة ملازمة للحكومات المتعاقبة منذ عام 2011.
يقول الخبير القانوني “عبدالمولى الشريف”: “ملف الكتاب المدرسي ليس إلا مثالاً واضحاً على غياب الشفافية والرقابة. كل مرة يُتهم وزير ويُحبس، لكن المنظومة ذاتها تبقى كما هي. الإصلاح لا يتحقق بالحبس فقط بل بإعادة بناء المؤسسات على أساس الكفاءة لا الولاء”.
ويضيف:“التعاقدات في طرابلس تتم غالباً خارج إطار المنافسة العادلة، مما يفتح الباب أمام الرشاوى والصفقات المشبوهة. ما لم يتم تفعيل الرقابة المسبقة وتحديث أنظمة الشراء العام، فإن الفساد سيبقى مستمراً”.
المجتمع الدولي يلتزم الصمت: ازدواجية المعايير؟
أثارت تصريحات الباحثة ريم البركي تساؤلات حول الموقف الدولي من استمرار حكومة الدبيبة رغم فضائح الفساد المتكررة.
“المجتمع الدولي لا يستحي”، تقول البركي، في تعليق لاذع على تجاهل القوى الغربية لهذه التطورات.
ويرى محللون أن صمت البعثات الأممية والسفارات الغربية يعكس “ازدواجية معايير” في التعاطي مع ملفات الفساد في ليبيا، إذ تُغضّ الطرف عن الانتهاكات طالما أن الحكومة تحافظ على مصالحهم الأمنية والاقتصادية.
هل تفتح القضية باب الإصلاح؟
رغم السخط الشعبي، يرى بعض المراقبين أن ما يحدث قد يشكل نقطة تحول في مسار العدالة الليبية.
الناشط الحقوقي “عبدالرحمن الزوي” يرى أن “حبس الوزير مؤشر على استقلالية نسبية للنيابة العامة”، مضيفاً:
“حين تُحاسب شخصية وزارية رفيعة، فهذا دليل أن القضاء بدأ يستعيد عافيته، لكن نجاحه يتوقف على قدرته في ملاحقة باقي المتورطين بغض النظر عن مناصبهم”.
بين العدالة والسياسة: معركة داخلية في حكومة الدبيبة
يرى بعض المحللين أن القضية تحمل أبعاداً سياسية داخلية، خاصة أن وزارة التعليم واحدة من الحقائب الحساسة التي تتقاطع فيها مصالح مالية ضخمة مرتبطة بعقود الطباعة والمناهج.
ويشير الباحث السياسي “الطاهر بن صابر” إلى أنّ توقيف الوزير قد “يفتح صراعاً خفياً داخل الحكومة بين أجنحة تتنافس على النفوذ المالي والإداري”.
خاتمة: العدالة وحدها لا تكفي دون إصلاح مؤسسي شامل
تُجمع آراء المواطنين والمراقبين على أنّ توقيف الوزير خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى “نقطة في بحر الفساد” ما لم تُتبع بإصلاح جذري في آليات التوظيف والتعاقد والرقابة.
ففي بلد أنهكته الانقسامات والصراعات، تبقى المدرسة رمزاً للأمل الأخير.
لكن هذا الأمل مهدد، ليس فقط بغياب الكتب المدرسية، بل بغياب الثقة في الدولة ذاتها.
“لا نريد وزيراً جديداً، نريد نظاماً جديداً” — بهذه العبارة يلخص أحد أولياء الأمور في بنغازي الموقف الشعبي.
وبينما ينتظر الطلاب كتبهم، ينتظر الليبيون جميعاً أن تُكتب فصول جديدة من العدالة، لا تكتفي بحبس الفاسدين، بل تفتح طريقاً نحو بناء دولة تحترم تعليمها ومواطنيها.



