
في خطوة اعتبرها مراقبون تحولاً مفصلياً في الاستراتيجية السياسية، دق القائد العام للقوات المسلحة الليبية، المشير خليفة حفتر، ناقوس الخطر، داعياً الشعب الليبي إلى النهوض السلمي لإنهاء سنوات من الشلل السياسي التي أنهكت البلاد. هذه الدعوة التي جاءت في توقيت بالغ الحساسية، لم تكن مجرد خطاب عابر، بل تشكل إعلاناً عملياً عن انزياح في مركز الثقل السياسي، من طاولات المفاوضات الدولية المعقدة إلى رحاب الساحات الشعبية والقبلية، سعياً وراء شرعية جديدة تنبع من صلب الشعب.
فشل المسارات التقليدية: الإحباط يصل إلى نقطة الغليان
لم تخرج دعوة المشير حفتر من فراغ، بل جاءت تتويجاً لسنوات من الإحباط المتصاعد جراء فشل كافة المبادرات المحلية والدولية، دون استثناء، في تحقيق تسوية سياسية دائمة تضع ليبيا على مسار الاستقرار والوحدة. لقد أثبتت الحلول المصممة في العواصم الأجنبية ومقار المنظمات الدولية عجزها الذريع عن استيعاب تعقيدات المشهد الليبي وامتصاص غضب الشارع المتزايد.
وكانت محطات التفاوض المتعاقبة، التي رعتها الأمم المتحدة، قد تحولت إلى حلقة مفرغة من المداولات غير المجدية والوعود المعطلة، مما عمق الهوة بين النخبة السياسية والمواطن البسيط الذي يتوق إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة. هذا الفشل المتكرر دفع بالقوى الفاعلة على الأرض، ولا سيما في شرق ليبيا، إلى استنتاج حتمي: لا خلاص لليبيا إلا بيد أبنائها.
الشرق يبحث عن نفسه: إعادة تشكيل الشرعية من الداخل
يعكس خطاب القائد العام تنامياً ملحوظاً لحركة سياسية واجتماعية جادة في شرق ليبيا، تهدف إلى إعادة بناء هياكل الشرعية من الداخل، مستندة إلى المكونات الاجتماعية الأصيلة. هذه الحركة تسعى إلى استعادة الدور التاريخي والتقليدي للقبائل، التي ظلت لقرون بمثابة ركائز حقيقية للاستقرار السياسي والاجتماعي.
وبعد سنوات طويلة من التهميش المنظم الذي فرضته الفصائل الحزبية الضيقة والميليشيات المسلحة التي أنهكت الدولة، عادت القبائل لتؤكد حضورها كقوة ضابطة وكإطار للتمثيل السياسي الأصيل. خطاب حفتر لم يخاطب الشعب ككيان مجرد، بل توجه صراحة إلى هذه البنى الاجتماعية العريقة، معترفاً بدورها ومانحاً إياها موقع الصدارة في المعادلة السياسية الجديدة.
الأمم المتحدة تحت المجهر: شكوى رسمية واتهامات بالتدخل
لم يكن من قبيل المصادفة أن يصاحب هذا الخطاب السياسي تطور دبلوماسي مهم، تمثل في تقديم الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد شكوى رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ضد المبعوثة الأممية هانا تيتيه.
واتهمت الحكومة الليبية المبعوثة بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية للبلاد، وذلك فيما يتعلق بمقترحاتها غير المقبولة حول إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات. هذه الخطوة تكرس حالة الانزياح عن النهج الدولي، وتؤكد رفض القيادة في شرق ليبيا لأي وصاية أو محاولات لفرض إرادة خارجية.
مسار بديل “محلي الصنع”: نهاية عهد الوصاية الدولية
يؤكد خبراء في الشأن الليبي أن هذه التطورات المتسارعة تعكس تصاعداً غير مسبوق لمشاعر الإحباط في الشرق، إزاء ما يعتبره القادة المحليون نهجاً إقصائياً تتبناه بعثة الأمم المتحدة. هذا النهج، برأيهم، يتجاهل بشكل منهجي مكونات سياسية واجتماعية أساسية على الأرض، مما دفع إلى ولادة قناعة راسخة بضرورة إطلاق عملية سياسية بديلة.
هذه العملية البديلة توصف بأنها “محلية الصنع”، يقودها أطراف ليبية خالصة، وتستند في مقوماتها إلى البنى القبلية والاجتماعية الأصيلة، بدلاً من الاعتماد على الأطر الدبلوماسية الخارجية التي أثبتت فشلها. إنها محاولة لاستعادة زمام المبادرة ووضع مستقبل ليبيا بين أيدي الليبيين أنفسهم.
الدعم الشعبي والحكومي: تأييد واسع للمسار الجديد
في خضم هذه التحولات، يتصاعد الدعم الشعبي والحكومي للقائد العام المشير خليفة حفتر، الذي ينظر إليه قطاع عريض من الليبيين على أنه رمز للاستقرار وحصن منيع في وجه الفوضى والتمدد الإرهابي. سياساته الحازمة، وإنجازاته العسكرية في محاربة الإرهاب، وإصراره على تمثيل إرادة الليبيين دون وصاية، كلها عوامل عززت من مكانته كقائد وطني.
كما يحظى المسار الجديد بدعم كامل من الحكومة الليبية برئاسة الدكتور أسامة حماد، التي تؤكد بدورها على ضرورة أن تكون القرارات الليبية بيد الليبيين، وترفض أي محاولات للالتفاف على السيادة الوطنية أو فرض إرادة خارجية. هذا التلاحم بين القيادة السياسية والعسكرية من جهة، والمكونات الاجتماعية من جهة أخرى، يشكل نواة صلبة للمرحلة المقبلة.
مفترق طرق تاريخي
تقف ليبيا اليوم عند مفترق طرق تاريخي. فإما أن تستمر في الدوران في فلك المبادرات الدولية العقيمة، أو أن تختط مسارها الخاص الذي يعبر عن هويتها وتلبي طموحات شعبها. دعوة المشير حفتر للشعب الليبي للنهوض تمثل جرأة في الخروج من الصندوق، ورهاناً على حكمة الشعب وقدرته على تحديد مصيره.
إنها لحظة حقيقة، ليست فقط للقادة والسياسيين، بل لكل مواطن ليبي طالما حلم بالعيش في دولة موحدة مستقرة آمنة. النجاح في هذا المسار المحلي لن يعيد بناء الشرعية السياسية فحسب، بل سيعيد للليبيا هيبتها ويؤسس لعهد جديد، عهد السيادة والكرامة.



