ليبيا

أزمة سيولة و”اقتطاع مقنن”.. عمولات المصارف تلتهم رواتب الليبيين

طوابير البنوك ومكاتب الصرافة تستنزف دخل المواطن الليبي وسط غياب الحلول

ليبيا 24

رحلة شهرية لنيل الحق

في الخامس عشر من كل شهر، تبدأ رحلة المعاناة من جديد. إنها ليست رحلة بحث عن لقمة عيش إضافية، بل هي معاناة للحصول على ما تبقى من لقمة العيش الأساسية بعد أن تلتهمها عمولات لا ترحم. إنها رحلة الموظف الليبي، حامل بطاقة الراتب، بين ماكينات الصرف الآلي العاجزة، ومكاتب البنوك المزدحمة، ومكاتب الصرافة الجشعة، في مشهد متكرر يلخص أزمة سيولة مزمنة وانهياراً للثقة في المنظومة المصرفية بأكملها.

شهادات.. أرقام تتكلم

يقف لؤي محمد (35 عاماً) موظفاً حكومياً، كأحد الشواهد على هذه المعاناة. ينتظر راتبه كأي موظف في العالم، لكن انتظاره لا ينتهي بتسلم مستحقاته كاملة. يحكي لؤي: “يصل الرقم إلى حسابي المصرفي، بعد تأخير ليس بالقليل، لكن المعركة الحقيقية تبدأ عند محاولة سحبه. إما سحب على دفعات متعددة من المصرف مع خصم عمولة من كل دفعة، أو اللجوء إلى مكتب صرافة يقتطع جزءاً كبيراً تحت مسمى العمولة. في النهاية، ما يصل إلى يدي لا يتجاوز ثمانين في المائة من الراتب الأساسي”.

هذه الشهادة ليست حالة فردية، بل هي القاعدة في مشهد يعيشه آلاف الموظفين والعاملين في البلاد. مها، موظفة من بنغازي، تؤكد أن التعليمات الرسمية التي حددت العمولة بنصف دينار عن كل مائة دينار، ليست سوى حبر على ورق. تقول: “الواقع مختلف تماماً، بعض المصارف تفرض رسوماً تصل إلى عشرة دنانير عن كل عملية سحب واحدة. نحن نخسر عشرات الدنانير شهرياً، مقابل خدمة كان من المفترض أن تكون مجانية، أو برسوم رمزية”.

اعتراف رسمي.. وحلول غائبة

في البرلمان، تعترف “لجنة المالية والتخطيط” بحجم المعاناة. يقول المهدي الأعور، نائب رئيس اللجنة: “هناك معاناة حقيقية يعيشها المواطنون بسبب الخصومات والعمولات على سحب المرتبات”. ويتحدث الأعور عن عزم اللجنة عقد اجتماع مع المصرف المركزي وإدارات البنوك “لوضع حلول لتخفيف الأعباء”، في إطار وعود اعتاد المواطنون سماعها دون أن يلمسوا أثراً لها على أرض الواقع.

ويشير الأعور إلى أن بعض المصارف لم تلتزم بتعليمات المصرف المركزي بشأن تقليص العمولات، مؤكداً على “مساعي المصرف المركزي لضبط النظام المصرفي وفرض عقوبات على الإدارات المخالفة”. لكن هذه المساعي تبقى غير كافية في ظل استمرار الشكاوى واتساع رقعة الاستقطاعات غير المبررة.

الثقب الأسود.. مكاتب الصرافة الموازية

لا تتوقف المعاناة عند أبواب البنوك الرسمية، فالنقص الحاد في السيولة النقدية والطوابير الطويلة التي تستنفذ وقت المواطنين، دفعا بكثيرين إلى البحث عن بدائل سريعة، وإن كانت باهظة الثمن. هنا، تبرز “مكاتب الصرافة” كفاعل رئيسي في هذه الأزمة، مستغلة حاجة الناس لتتحول إلى قطاع موازٍ يقتات على عرق المواطنين.

تعمل هذه المكاتب، التي حصل الكثير منها على تراخيص رسمية، بشكل يشبه “السوق السوداء”. فهي توفر السيولة النقدية للمواطن الذي يعجز عن سحب راتبه من البنك، ولكن مقابل عمولة خيالية تتراوح بين خمسة عشر وخمسة وعشرين في المائة من قيمة الراتب. أي أن موظفاً راتبه ألف دينار، يضطر لتقديم مائة وخمسين إلى مائتي دينار لمجرد الحصول على مستحقاته.

وصف الإعلامي الليبي خليل الحاسي هذه الممارسات بـ “الاستسلام لعصابات مالية تستحوذ على ربع رواتب الليبيين كل شهر”، في حملة انتقادات حادة سلطت الضوء على هذا الاستغلال المنظم.

تحليل اقتصادي.. أزمة ثقة ونظام هش

يشرح الخبير الاقتصادي علي الصلح جوانب من هذه الأزمة المعقدة، مؤكداً أن مصرف ليبيا المركزي هو الجهة الوحيدة المخولة قانونياً بتحديد العمولات المصرفية وفقاً للسياسة النقدية. لكنه يشير إلى أن بعض المصارف “استغلت العمولة لزيادة أرباحها على حساب المواطنين”، في إطار انهيار الرقابة الفعلية.

ويكشف الصلح عن مؤشر خطير، وهو أن نسبة التعامل النقدي إلى الإيداعات ارتفعت إلى نحو ثمانية وأربعين درهماً لكل دينار، وهو ما يعكس في نظره “أزمة ثقة حقيقية بالجهاز المصرفي بأكمله”. فالمواطن لم يعد يثق في النظام المصرفي القائم، مما يدفعه إلى اللجوء للتعامل النقدي المباشر بكل ما يحمله من مخاطر وتكاليف إضافية.

ويذهب الخبير الاقتصادي إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن بعض مكاتب الصرافة “تعمل خارج الإطار المصرفي الرسمي، وتحقق أرباحاً طائلة عبر علاقات غير سليمة مع بعض الإدارات المصرفية”، مؤكداً أن اقتصاداً سليماً يتطلب تعاملات عبر قنوات تضمن سلامة الأموال وشفافيتها.

مفارقة الأرقام.. أين تذهب أموال الشعب؟

في أحدث البيانات الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي، تستأثر المرتبات بنحو ستين في المائة من إجمالي النفقات العامة للدولة، حيث سجلت منذ بداية العام الحالي وحتى شهر سبتمبر الماضي، ما يقارب الواحد والخمسين مليار دينار.

هذا الرقم الضخم يطرح تساؤلات كبيرة حول سبب عدم انعكاس هذه المبالغ الهائلة على حياة المواطن العادي، الذي يرى راتبه يتآكل شهراً بعد شهر بين عمولات البنوك ومكاتب الصرافة وارتفاع الأسعار. إنها مفارقة تؤكد وجود خلل هيكلي عميق في إدارة المال العام، وفي آلية صرف الرواتب وتداولها.

خاتمة: المواطن هو الخاسر الأكبر

في الختام، تبقى الصورة قاتمة. فالمواطن الليبي هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة المعقدة، وهو من يدفع الثمن من جيبه وقوته اليومي. إنها حلقة مفرغة من الأزمات: أزمة سيولة تدفع إلى عمولات مرتفعة، تزيد من ضغوط الحياة المعيشية، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

ما يحدث ليس مجرد “عمولات”، بل هو اقتطاع مباشر من دخل الفرد، وإضعاف لقدرته الشرائية، وتقويض لاستقراره المعيشي. إن معالجة هذه الأزمة تتطلب أكثر من اجتماعات ووعود، إنها تتطلب إرادة حقيقية لإصلاح النظام المصرفي، وفرض سيادة القانون على جميع المؤسسات المالية، ووضع المواطن وحيات الكريمة على رأس سلم الأولويات. فبدون ذلك، ستستمر رحلة المعاناة الشهرية، وسيظل الراتب مجرد رقم على الورق، تأكله العمولات قبل أن يصل إلى جيب صاحبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى