ليبيا: فشل الإصلاح النقدي يزيد أزمة السيولة وتدهور الدينار
خبراء: إجراءات المصرف المركزي الليبي غير كافية لإنقاذ العملة

ليبيا 24
تحقيق خاص: عام على خطة المصرف المركزي بين الوعود والواقع المرير
بعد مرور عام كامل على الإعلان عن خطة شاملة لإصلاح النظام النقدي، ما زال المواطن الليبي يعاني من تداعيات أزمة اقتصادية طاحنة، تتفاقم يومياً مع استمرار تدهور قيمة الدينار واشتداد أزمة السيولة، في مشهد يعكس فشل السياسات النقدية المنفردة في معالجة أزمات بنيوية عميقة.
خطة طموحة وواقع مرير
في نوفمبر من العام الماضي، أعلن محافظ المصرف المركزي خطة وصفها بأنها “شاملة وجذرية” لإصلاح النظام النقدي وضبط سعر صرف الدينار. تضمنت الخطة إجراءات عدة شملت إبطال التعامل بالأوراق النقدية القديمة، وفتح المجال أمام شركات صرافة جديدة، وتحويل عملية صرف الرواتب عبر المصارف التجارية، ونقل اختصاص الموزع الوطني لتوزيع النقد.
لكن الواقع الذي يعيشه الليبيون اليوم يروي قصة مختلفة. فبدلاً من التحسن، استمر تدهور قيمة الدينار، وازدادت أزمة السيولة حدة، وتفاقمت المعاناة اليومية للمواطنين الذين يعانون من صعوبة الحصول على أموالهم من المصارف.
فجوة سعرية تتسع
تشير البيانات الأخيرة إلى أن الفجوة بين السعر الرسمي للدينار وسعره في السوق الموازية تتجاوز 20%. فبينما حدد المصرف المركزي سعر الدولار عند 5.38 دينار، فإن السعر في السوق الموازية يتراوح بين 7.35 و7.50 دينار.
هذه الفجوة السعرية الكبيرة خلقت بيئة خصبة للفساد والاستغلال، حيث يستفيد وسطاء ومتلاعبون من تفاوت الأسعار، بينما يدفع المواطن البسيط الثمن من خلال انخفاض قيمة مدخراته وقدرته الشرائية.
شهادات مواطنين: معاناة يومية
يقول أحمد محمد، موظف حكومي من طرابلس: “كل يوم نقف في طوابير طويلة أمام المصارف، وغالباً نعود خاليي الوفاض. الرواتب لا تكفي لسد احتياجات الأسرة بسبب ارتفاع الأسعار، والقدرة الشرائية للدينار في انخفاض مستمر”.
وتضيف فاطمة علي، معلمة من بنغازي: “نعيش أزمة مزدوجة: أزمة في الحصول على النقد، وأزمة في انخفاض قيمة هذا النقد. الأسعار ترتفع بشكل جنوني، بينما الرواتب تظل كما هي. الوضع أصبح لا يطاق”.
أما عمر الكيخيا، تاجر صغير من مصراتة، فيقول: “عملية استيراد البضائع أصبحت مقامرة خطيرة. التقلبات في سعر الصرف تجعلنا نخسر في كثير من الأحيان. التجارة أصبحت مشروعاً خاسراً في هذه الظروف”.
تحليل الخبراء: إصلاحات غير كافية
يرى خبراء اقتصاديون أن الخطة التي أعلن عنها المصرف المركزي كانت إجراءات جزئية وغير كافية لمعالجة جذور الأزمة.
ويوضح المصرفي نعمان البوري أن “الطلب على النقد الأجنبي سببه التمويل بالعجز عبر طباعة أوراق نقدية بلا غطاء. هذه السياسة أدت إلى تضخم كبير في كمية النقد المتداول دون أن يقابله نمو في الإنتاج”.
من جانبه، يعتبر الخبير الاقتصادي سليمان الشحومي أن “الإجراءات التي اتخذها المصرف المركزي أقرب إلى ردود فعل إدارية وليست سياسة إصلاحية متكاملة. الإنفاق غير المنضبط وتعدد الحكومات شكلا ضغطاً هائلاً على العملة”.
ويشير الكاتب الاقتصادي إبراهيم السنوسي إلى أن “تعدد سلطات الصرف والرقابة المالية يقيد استقلالية المصرف المركزي ويجعل الإصلاحات سطحية وغير قادرة على معالجة الأزمة من جذورها”.
أرقام صادمة
تكشف الأرقام الرسمية عن واقع اقتصادي صعب:
· فائض السيولة لدى البنوك يبلغ نحو 50 مليار دينار غير متداول فعلياً بين المواطنين
· معدل التضخم ارتفع إلى 15% خلال العام الماضي وفقاً لتقارير البنك الدولي
· الإنفاق العام بلغ 77 مليار دينار حتى أكتوبر الماضي، مع اعتماد كبير على النفقات الجارية وضعف الاستثمار الإنتاجي
هذه الأرقام تؤكد أن الأزمة هيكلية وتحتاج إلى معالجة شاملة تتعامل مع جذور المشكلة وليس أعراضها فقط.
تداعيات اجتماعية خطيرة
للأزمة الاقتصادية تداعيات اجتماعية خطيرة، حيث أدت إلى:
· اتساع رقعة الفقر بين الشرائح المتوسطة والفقيرة
· ارتفاع معدلات البطالة خاصة بين الشباب
· تزايد الهجرة غير الشرعية
· تفكك النسيج الاجتماعي وارتفاع معدلات الجريمة
تقول الباحثة الاجتماعية د. منى فرج: “الأزمة الاقتصادية تتحول إلى أزمة اجتماعية وإنسانية. العائلات لم تعد قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية. الشباب يفقدون الأمل في المستقبل. هذه مؤشرات خطيرة على تدهور الوضع الاجتماعي”.
مستقبل غامض
في ظل استمرار الانقسام السياسي وعدم الاستقرار المؤسسي، يبدو المستقبل الاقتصادي لليبيا غامضاً. فبدون توافق سياسي حقيقي وإصلاح مؤسسي شامل، تبقى أي إجراءات نقدية مجرد مسكنات مؤقتة لا تقوى على معالجة الأزمة من جذورها.
ويخلص الخبراء إلى أن إنقاذ الدينار الليبي يظل رهيناً بإصلاح مالي شامل واستقلالية حقيقية للمصرف المركزي بعيداً عن تجاذبات السلطة، وإلى أن يتحقق ذلك، ستستمر معاناة المواطن الليبي من تبعات أزمة ليست من صنعه.



