دولى

ليبيا تهتز بحملة نسائية تكسر صفقات الزواج تحت السلاح

صرخة نساء ليبيا تتحدى صمت الميليشيات ووجاهة المال الحرام

ليبيا 24:

“لا تتزوجي ميليشياوي”… حين تُعلن النساء تمردهن على صدأ السلاح ووهج الثروة

في ليبيا، حيث تتقاطع رائحة البارود مع تفاصيل الحياة اليومية، وحيث صارت الوجاهة تُقاس بعدد السيارات المصفّحة وعدد الرجال الذين يقفون عند بوابة المنزل، برزت ظاهرة كان كثيرون يتهامسون حولها دون جرأة على إعلانها: زيجات تُبرم تحت ظل السلاح، وتنهض على المال الحرام، وتسوّق في المجتمع على أنها “ستر” و”إنقاذ” و”نصيب” لكنّ شيئاً ما تبدّل.

صوتٌ أنثوي حادّ، جاء من خارج مسار التواطؤ الاجتماعي، كسر حالة الصمت، وفتح باباً لم يكن مطروقاً من قبل.

صوت الإعلامية والباحثة ريم البركي التي كتبت—بهدوء مخلوط باليقين—مجموعة من الرسائل، ثم تركتها تشتعل في فضاء “فيسبوك” مثل شرارة على سطح جاف. لم يكن صخباً ولا ادعاء بطولة؛ مجرد قراءة مبكرة لمشهد كان في طريقه للانفجار.

ومع الوقت، أصبحت تلك المنشورات العصب الذي التف حوله وعي جديد، فتحوّل الرفض الفردي إلى موجة اجتماعية حملت عنواناً واحداً:“لا تتزوجي ميليشياوي”.

سياق مشبّع بالقلق… ونساء يبحثن عن نجاة

قبل الحملة، كانت القصص تتكرّر كأنها نسخ متطابقة لقدر واحد.

فتاة تصير ضحية صراع، امرأة تختفي، زوجة تُدفن داخل حديقة منزل فخم، عروس تُنقل إلى المستشفى بعد تعنيف ممن “اشترى زفافها” ضمن صفقة نفوذ.

في بلد متخم بالميليشيات وتجار البشر والمخدرات والسلاح، صار الزواج—في بعض دوائره—تحالفاً بين الطمع والخوف، لا بين البشر.

جريمتان تحديداً كانتا كافيتين لخلخلة الوجدان العام:

  • اغتيال صانعة المحتوى خنساء المجاهد في وضح النهار، في جريمة رجّحت كثير من القراءات أنها لم تستهدفها شخصياً بقدر ما استهدفت محيط زوجها.
  • العثور على جثة زوجة أحمد الدباشي “العمو” مدفونة في حديقة منزل، وكأن الموت صار تفصيلاً عادياً في طقوس الثراء العسكري.

كلا الحادثتين أيقظتا سؤالاً كان الجميع يهرب منه:كم من النساء يعشن في قصور بواجهات رخامية… لكن بنوافذ مغلقة خوفاً من رجل لا يخضع لقانون ولا رادع؟

حين يصبح المال قيداً… لا ضمانة

لم يكن غريباً أن تهاجم الحملة فكرة “الثراء الملوّث” الذي أغرى بعض الأسر.

في بلد يعاني من فقر متصاعد، قد تبدو الهدايا الباهظة—ذهب بمليون، سيارات بعشرين مليون، سفر لأوروبا—كأنها “فرصة”.

لكن البركي طرحت سؤالاً سهلاً ومنسياً:

هل يستطيع المال أن يبدد خوف الفتاة من رجل لا يثق أحد بما قد يفعله حين يغضب؟

المال هنا لم يعد رمز قدرة… بل تحوّل إلى قناع يخفي خلفه تاريخاً من العنف، أو ثروة تشكّلت على حساب حياة آخرين.

وبينما كان المجتمع يلهث وراء المظاهر، كانت نساء كثيرات يدفعن أثماناً من أجسادهن ونفسياتهن وأعمارهن.

الأب… الولي الذي نسي دوره

بصورة هادئة ولكن قاطعة، أعادت الحملة تعريف معنى “الولاية”.

لم تعد كلمة مرتبطة بالبروتوكول الشرعي للعقد، بل تحوّلت إلى كلمة محورية في حماية حياة إنسانية.

أحد المنشورات التي أثارت صدى واسعاً حمل فكرة بسيطة:“الولي الذي يوقّع هو الذي يتحمّل تبعات التوقيع.”

تتساءل البركي:

  • كيف ينعم الأب بنوم هادئ وهو يدرك أن ابنته تنام إلى جوار رجل يحمل تاريخاً من العنف أو تجارة البشر أو السلاح؟
  • كيف يخشى الأب “زعل” مجرم أكثر مما يخشى أن تتحوّل ابنته إلى جثة صامتة لا يملك حتى التصريح بدفنها؟

في زمن اختلطت فيه القيم، صار بعض الآباء يترددون أمام المال الحرام، ويتراجعون أمام النفوذ، ويتصرفون كأن الزواج صفقة بيع لا مسؤولية أخلاقية.

زواجه ثمنه حياة… ومصيره محزن

تقدم الحملة رؤية واضحة:

أن تتزوج فتاة من تاجر سلاح أو عنصر ميليشيا أو ثري حرب… ليست تجربة مرفهة، بل مخاطرة وجودية.

رجل تلطّخت ثروته بالموت، لن يصنع بيتاً آمناً.

ورجل يحكمه قانون القوة لا قانون الدولة، لن يحترم امرأة تقف أمامه بلا حماية.

والفتاة التي تُزفّ بأبهة فوق قدر طاقتها النفسية، لا تعيش عرساً… بل تدخل بداية سطر مجهول.

لقد تكررت المأساة بما يكفي ليصبح السؤال ملحّاً:

كم من تلك الزيجات تنتهي بانهيار صامت؟ وكم منها ينتهي بجريمة… يختفي الخبر فيها قبل أن تستيقظ المدينة؟

الانفجار الصامت… نساء يكسرن الحواجز

اللافت في الحملة لم يكن مضمونها فقط، بل النوعية الجديدة من النساء اللواتي التففن حولها.

لم يكنّ ناشطات محترفات، ولا وجوهاً تسعى للظهور.

كنّ نساء عاديات: أمّ تخاف على ابنتها، فتاة رأت صديقتها تُقتل، أخت لم تُصدّق يوماً أن السلاح قد يقتل من داخل البيت.

هذه الأصوات حولت الحملة من موقف فردي إلى حراك نسوي اجتماعي، هادئ لكنه قوّي، يأخذ شكل الوعي لا شكل التظاهر.

ولذلك ضجّت منصات التواصل بعبارات عادية في ظاهرها، لكنها ثورية في مضمونها:

  • “نريد رجلاً يكدّ ويتعب… لا رجلاً يختبئ خلف المال”.
  • “الثراء السريع يشتري الحذاء… لكنه لا يشتري الأمان.”
  • “النجاة أهم من الفخامة.”

البعد السياسي… عندما يتقاطع الزواج مع السلطة

تزامنت الحملة مع سجالات سياسية متصاعدة، أبرزها الجدل الذي أثارته مبادرة رئيس الحكومة المؤقتة بمنح مكافآت للفتيات المتأخرات عن الزواج لم يكن الأمر تفصيلاً.

ففي مناخ مضطرب، بدا القرار وكأنه محاولة “تنشيط سوق الزواج” في مجتمع لم يلتئم جرحه الأمني بعد.

الانتقادات التي وُجهت كانت تقول شيئاً واحداً: لا يمكن للدولة أن تتعامل مع الزواج كحافز مالي… في وقت تعيش فيه نساء رعباً حقيقياً من اختيار شريك غير آمن.

زواج القاصرات… جرح قديم يعود إلى الضوء

أعادت الحملة إحياء النقاش حول زواج الأطفال، بعد حادثة تعذيب طفل على يد زوج والدته—فتاة لم تتجاوز الرابعة عشرة حين تزوجت.

كشف الأمر عمق المشكلة:

قاصرات يتحولن إلى أمهات، وأمهات يتحولن إلى ضحايا، والضحايا يكبرن ليصبحن جزءاً من دوامة الألم نفسها.

في رؤية الحملة، منع زواج القصّر ليس مطلباً نسوياً بل ضرورة اجتماعية، لأن الطفلة التي تُجبر على الزواج تُلقي بثمن التجربة على طفل آخر لاحقاً.

الحب والطمأنينة… لا معادلة شراء وبيع

أكثر ما ميّز الحملة هو جرأة تقديم تعريف بديل للزواج بعيد عن الحسابات:

الزواج ليس مشروعاً استثمارياً، وليس صفقة بين عائلتين، وليس قفزة اجتماعية.

هو ببساطة قدرة على النوم بطمأنينة قرب شخص لا تخشاه.

قد يبدو الكلام رومانسياً في بلد مضطرب، لكنه في الحقيقة كان—ولا يزال—جوهر علاقة الإنسان بالإنسان.

فالمرأة التي تعيش مع رجل يلمّع سلاحه بجانب سريرها… لا تعيش زواجاً، بل تعيش حالة طوارئ.

ولادة وعي جديد… من دون ضجيج

رغم أن الحملة انتشرت كالنار في الهشيم، لم تُستخدم لغة الثورة، ولا خطاب الكراهية، ولا الدعوات الصدامية.

كانت قوة الحملة في بساطتها وصدقها وتوقيت ظهورها.

رسائل قصيرة، مكتوبة بوعي هادئ، كشفت المسكوت عنه، وتركته يواجه المجتمع.

لم تقل الحملة إن كل رجال السلاح مجرمون.

ولم تقل إن كل الزيجات التي تتم في دوائر النفوذ هي مآسٍ.

بل قالت شيئاً واحداً فقط:

الأمان شرط والبنت ليست سلعة والثمن قد يكون حياة.

هذه الجملة البسيطة كانت كافية لتعيد ترتيب الوعي في كثير من البيوت.

ليبيا بين نارين… والنساء أول من يقفن عند خط النار

في بلد يتداخل فيه السلاح مع الدولة، وتتحرك فيه السلطة على وقع تفاهمات القوة، تصبح المرأة أول من يدفع الثمن:

في بيتها، في شارعها، في اختيار شريك حياتها.

الحملة لم تكن مواجهة بين النساء والرجال، بل كانت مواجهة بين فكرة الحياة وفكرة العنف.

بين اختيار رجل متواضع الدخل… واختيار رجل يملك كل شيء إلا ذاته.

بين مستقبل يمكن التنبؤ به… ومستقبل محفوف باحتمال أن تخرج الجنازة من باب البيت.

صرخة ذات صدى ممتد

لم تكن الحملة حدثاً عابراً، بل إشارة إلى تحوّل اجتماعي عميق:

جيل جديد من النساء يرفض الصمت.

جيل جديد من الآباء يعيد تقييم معنى “الستر”.

جيل جديد من المجتمع يرى أن الكرامة والأمان أهم من الذهب والسيارات والمظاهر.

منشورات البركي لم تكن بياناً سياسياً، ولا دعوة علنية لمواجهة، بل مرآة رفعتها أمام المجتمع، وتركته يرى نفسه كما هو… من دون مكياج اجتماعي.

وفي النهاية، يكاد المراقب يلمح أن هذه الحملة—رغم بساطتها—قد تكون أحد أهم التحولات الثقافية في ليبيا بعد سنوات من الفوضى.

ليس لأنها صاخبة… بل لأنها صادقة.

وليس لأنها مدعومة… بل لأنها مطلوبة.

وليس لأنها ثورية… بل لأنها إنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى