ليبيا

ظاهرة الزواج من رجال الميليشيات… بين اقتصاد الفوضى ووعي النساء الجديد

تحقيق ممتد مع شهادات ومقابلات ورؤية سوسيولوجية معمّقة

ليبيا 24:

في ليبيا التي لم تلتئم جروحها بعد، تحوّل الزواج في بعض البيئات إلى مرآة عاكسة لطبيعة السلطة الجديدة: سلطة المال السريع، والسلاح غير المقيد، والوجاهة التي تصنعها شبكات النفوذ لا الطبقات الاجتماعية.

وسط هذا المشهد، خرجت حملة “لا تتزوجي ميليشياوي” كواحدة من أكثر الحركات الاجتماعية تأثيراً خلال السنوات الأخيرة، ليس لأنها ضجّة نسوية، بل لأنها كشفت طبقة كاملة من الألم والغموض ظلت داخل البيوت.

هذه الحملة التي أطلقتها الإعلامية والباحثة ريم البركي وكانت إحدى أول من التقطوا مؤشراتها وبذور غضبها لم تكن موجة عابرة، بل حلقة من تحوّل اجتماعي أعمق: وعي نسائي يعيد تعريف الأمان، ومسؤولية الأسرة، ومعنى “الستر”.

اقتصاد الفوضى… كيف يتحوّل السلاح إلى مكانة اجتماعية؟

في المناطق الخاضعة لنفوذ التشكيلات المسلحة، لم يعد السلاح مجرد أداة قتال أو حماية. بل أصبح “السلاح في ليبيا صار رمزاً طبقياً هناك طبقة كاملة تشكّلت فوق ركام الدولة، تعتمد على المال غير الرسمي كوسيلة صعود اجتماعي.”

اقتصاد الفوضى خلق ما يشبه “طبقة الأثرياء الجدد” بين 2014 و2023، ممن امتلكوا المال دون تاريخ اقتصادي، والنفوذ دون شرعية، فصار الزواج إحدى قنوات تثبيت مكانتهم.

عائلة وافقت على زواج ابنتها من عنصر مسلح

الوالد (اسم مستعار: الحاج يوسف): “لم نكن نعتقد أن هناك خطراً… قالوا إنه محترم، وإنه قادر على تأمين حياة بنتي الحقيقة؟ لم أفكّر صراحة رأيت السيارات، ورأيت البيت، ورأيت الهدايا… ولم أرَ الرجل.”

زوجته، بصوت منخفض: “أول ليلة بعد الزواج، عرفت أن ابنتي دخلت بيتاً ليس فيه قانون.”

العائلة ترفض التفاصيل خوفاً من الانتقام، لكن القصة—بتنوعاتها—تتكرر كثيراً.

دور النساء… حين يتحوّل الصمت الاجتماعي إلى موقف

لم تظهر الحملة من فراغ. قبل شهورها الأولى، كانت منشورات ريم البركي تلتقط التحوّل المبكر: قصص قتل، اختفاء، عنف منزلي مخفي، وصفقات زواج غامضة في مناطق النفوذ.

البركي، كما يشرح أحد أصدقائها: “لم تكن تكتب لتشعل ضجيجاً كانت تكتب لأنها رأت شيئاً خطيراً يحدث… كانت ترى البنات يذهبن إلى مصائر غير مفهومة.”

تلك القراءة المبكرة ساهمت في تفكيك وهم كان يحيط بزيجات المال السريع أن الثراء يعني الأمان لكن النساء اكتشفن العكس: من لا تخضعه دولة… لا يمكن أن يحمى امرأة.

شهادات الضحايا… أثر السلاح داخل البيت

شقيقة فتاة قُتلت بعد زواجها من تاجر سلاح

تقول “مها” (اسم مستعار): “كان الكل يقول: محظوظة… سيتزوجها رجل غني. بعد سنة، وجدنا أختي بلا نبض قالوا حادث… لكننا نعرف لا أحد يجرؤ أن يسأل. حتى نحن لم نستطع السؤال.”

تضيف:“أختي كانت تقول لي: أنا مش عايشة… أنا محبوسة.”

الأب… الولي الذي انحنى للنفوذ

في التحليل السوسيولوجي، يصف المختصين هذا التحوّل بأنه “انهيار وظيفة الولاية”.

الولي في الأصل هو الحامي لكن في سنوات الفوضى، أصبح بعض الآباء—بدافع الخوف أو الطمع أو الرغبة في النفوذ—يسلمون بناتهم لمن يملكون القوة.

“عندما يصبح الأب أضعف من المسلّح الذي يخطب ابنته… تتلاشى الحدود الأخلاقية.”

وفي مقابلة مع أحد الأئمة الذين رفضوا تزويج عناصر مسلحة:“رجل يحمل تاريخاً في المخدرات والسلاح يطلب أن أكون شاهداً على عقده؟ كيف؟ بأي منطق؟ قلت لهم: هذا ليس زواجاً… هذه صفقة.”

لماذا الآن؟ سؤال توقيت انفجار الحملة

السؤال الأبرز الذي طرحه المراقبون: لماذا انتشرت الحملة فجأة رغم أن الظاهرة كانت موجودة منذ سنوات؟

التحليل السوسيولوجي يقدم ثلاثة عوامل رئيسية:

1. القصص الدموية الأخيرة

قضية خنساء… وقضية زوجة الدباشي… وقصص اختفاء غير معلنة هذه الحوادث كانت بمثابة “الشرارة النفسية”.

2. تطور وعي النساء عبر وسائل التواصل

منصّات النساء لم تعد سطحية: قصص، تحذيرات، شهادات، دعم جماعي.

3. تراجع الخوف من الميليشيات

أي أن النفوذ لم يعد مطلقاً كما كان، وهذا شجّع النساء على رفع أصواتهن.

مقابلات مع فتيات رفضن عروضاً من عناصر مسلحة

“سارة”: رفضت الزواج من ثري حرب رغم إغراءات كبيرة “أرسلوا لي سيارة وقطع ذهب أبي كان متردداً… لكني قلت: مش عايزة أعيش في قصر يخلّيني أخاف أفتح الباب.”

طالبة جامعية: “اللي يتزوج ميليشياوي تعيش على عقله… وممكن يموتها لو شاف فيها شك ما نقدرش نعيش مع واحد يشوف الدنيا كلها عدوه.”

أين الدولة؟ ولماذا تُركت النساء وحدهن؟

الحملة لم تهاجم الرجال فقط، بل طرحت أسئلة ضد مؤسسات الدولة.

كيف يمكن لدولة أن تمنح مكافآت للزواج، بينما آلاف الفتيات يواجهن خياراً مخيفاً بين الزواج من مسلح… أو عدم الزواج؟

يقول خبير قانوني: “الدولة تتعامل مع الزواج كرقم… وليس كتكوين اجتماعي لم تضع قوانين تحمي القاصرات، ولا قوانين تمنع زواج النفوذ الذي يختلط بالعنف.”

التحليل النفسي – لماذا تنجذب بعض الفتيات لرجال السلاح؟

الظاهرة ليست بسيطة هناك أسباب نفسية أعمق:

1. صورة “الرجل الحامي”

بعض الفتيات يعشن في بيئة يشعرن فيها بانعدام الأمان، فيبدون منجذبات لمن يملك قوة ظاهرة.

2. التعويض الاجتماعي

العائلة التي تشعر بالضعف الاجتماعي قد ترى في الزواج من رجل نافذ قفزة طبقية.

3. الخوف… وليس الانجذاب

كثيرات يقبلن لأن رفض عرض كهذا قد يكون مخيفاً.

هل تغيّر شيء؟

نعم… تغيّر الكثير.

الحملة نقلت موضوع الزواج من الميليشيات من منطقة “السر” إلى منطقة النقاش العام.

والوعي الجديد جعل الفتيات—خاصة في المدن—يطلبن شيئاً بسيطاً لكنه عميق: الطمأنينة.

مستقبل الظاهرة… إلى أين تتجه؟

الباحثون توقعوا ثلاثة سيناريوهات:

سيناريو أول: تقلّص الظاهرة مع ازدياد الوعي، لن تنجح زيجات النفوذ كما كانت.

سيناريو ثانٍ: استمرارها في مناطق النفوذ المغلقة حيث لا صوت يعلو فوق صوت القوة المسلحة.

سيناريو ثالث: تدخل الدولة بقانون وهذا السيناريو الأضعف لكنه الأكثر تأثيراً إن حدث.

لم تكن حملة “لا تتزوجي ميليشياوي” حملة نسوية فحسب، بل كانت حدثاً اجتماعياً كشف عطباً عميقاً في بنية المجتمع الليبي: أن السلاح دخل البيوت… وأن النساء كنّ أول من دفع الثمن.

الوعي الجديد اليوم—بفضل أصوات كثيرة، من بينها صوت البركي الذي قرأ المشهد قبل انفجاره—قد لا يغيّر الواقع فوراً، لكنه بدأ يغير المخيال الاجتماعي.

وفي بلد مثل ليبيا، هذا وحده خطوة كبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى