ليبيا

الدبيبة ومعاناة المواطن .. إنفاق حكومي متصاعد في زمن العجز الشعبي: قراءة تحليلية لبيان الإيراد والإنفاق لشهر نوفمبر 2025

قراءة في إنفاق الوزارات: المالية أولاً والتربية في المركز الثاني

ليبيا 24:

في وقت تتزايد فيه معاناة المواطن الليبي مع ندرة السيولة وتعثر الخدمات الأساسية في مختلف المدن، تصدر الأرقام الرسمية لبيان الإيراد والإنفاق لشهر نوفمبر 2025 لتكشف فجوة مالية واقتصادية صارخة بين الواقع المعيشي للمواطن وبين مسار النفقات حكومة الدبيبة منتهية الولاية وارتفاعها الممنهج.

وتُظهر البيانات أنّ الدولة، رغم كثافة مواردها النفطية، لا تزال عاجزة عن تحويل هذا الدخل الضخم إلى خدمات ملموسة، بينما تتوسع أبواب الإنفاق على الرواتب والدعم والجهات التابعة لحكومة الدبيبة منتهية الولاية، بما يفوق قدرة الاقتصاد على الاستدامة، ويزيد من هشاشة الوضع المالي.

ويأتي البيان المالي الأخير ليعطي صورة شاملة لإيرادات الدولة خلال عام 2025 حتى نوفمبر، والأبواب التي تُصرف فيها الأموال، إضافة إلى تحليل الإنفاق حسب الوزارات والمؤسسات وهو بيان يحمل في طياته رسائل اقتصادية مهمة، سواء في ما يتعلق بتركيبة الإيراد المعتمدة على النفط بشكل شبه كامل، أو بتشوهات الإنفاق التي تبتلع عشرات المليارات دون أثر واقعي على البنية التحتية أو الخدمات العامة.

إيرادات ضخمة… ولكن من مصدر واحد

النفط يستحوذ على أكثر من 90٪ من الدخل العام

يوضح البيان أن إجمالي الإيرادات المسجلة حتى نهاية نوفمبر 2025 جاءت في معظمها من قطاع النفط، حيث بلغ إجمالي إيرادات المبيعات النفطية 93.3 مليار دينار، فيما سجلت إيرادات أتاوات النفط 16 مليار دينار، وهو ما يعكس اعتماد الدولة شبه الكلي على صناعة النفط كمورد وحيد يدعم المصروفات العامة.

وتظهر بقية بنود الإيرادات بصورة هامشية مقارنة بالقطاع النفطي، فإيرادات الضرائب لم تتجاوز مليار دينار، والجمارك 146.6 مليون دينار، والاتصالات 192.2 مليوناً، في حين بلغت أرباح مصرف ليبيا المركزي المعلنة 450 مليون دينار.

هذه الأرقام تشير بوضوح إلى أن القطاعات الاقتصادية غير النفطية ما تزال عاجزة عن توفير مصادر دخل حقيقية يستطيع من خلالها الاقتصاد التنوع والتحصن ضد التقلبات العالمية.

أما بند “الإيرادات الأخرى” الذي بلغ 4.3 مليارات دينار فهو في الحقيقة ليس نشاطاً إنتاجياً، بل رسوم على النقد الأجنبي ومتحصلات من مراقبات الخدمات المالية مثل رسوم الجوازات والغرامات وتمليك السيارات.

وبذلك يبقى الاقتصاد رهينة لعامل نفطي واحد، ما يعني أن أي اضطراب في أسواق الطاقة سيترك انعكاسات مباشرة على قدرة الدولة في تغطية الإنفاق.

تركيبة الإنفاق: 61 مليار للمرتبات وحدها

هيكل مالي يبتلع فيه الباب الأول أغلب المصروفات

التحليل الأبرز في جانب الإنفاق هو استمرار تضخم الرواتب، إذ سجل الباب الأول 61.2 مليار دينار، وهو رقم يكشف حجم الترهل الإداري واتساع القطاع العام إلى مستويات غير قابلة للاستمرار اقتصادياً.

ويؤكد الخبراء أن استمرار هذا الوضع يعني أن الدولة تدفع ثمناً باهظاً لهيكل وظيفي مترهل، في وقت تعاني فيه الخدمات من شلل شبه كامل.

أما الباب الثاني للنفقات التسييرية، فوصل إلى 5.8 مليارات دينار، وهي مصروفات تشغيلية تشمل حتى مرتبات جهات وهيئات معينة، الأمر الذي يضع البابين الأول والثاني في خانة الإنفاق الاستهلاكي الذي لا يخلق أي قيمة اقتصادية ولا ينعكس على حياة الناس.

وفي المقابل، بلغت نفقات التنمية في الباب الثالث 7.2 مليارات دينار فقط، وهو رقم متواضع إذا ما قورن بحجم الإيرادات الكلية، ويشير ذلك إلى ضعف السياسات التنموية وتهميش المشاريع التي يمكن أن ترفع كفاءة الخدمات العامة أو تعزز البنى التحتية.

الدعم… ثقب مالي واسع بلا نتائج ملموسة

33.3 مليار دينار دون تحسن في الوقود أو الخدمات

يظهر البيان أن باب الدعم يمثل أحد أكبر بنود الإنفاق، حيث سجل 33.3 مليار دينار تشمل جزءاً من مرتبات بعض الشركات، إضافة إلى علاوة الزوجة والأبناء، ودعم المحروقات.

ورغم هذا الرقم الضخم، لا تزال البلاد تشهد نقصاً في الوقود، وطوابير على محطات التزويد، وحديثاً مستمراً عن التهريب والفاقد التشغيلي.

ويطرح هذا الواقع سؤالاً محورياً: أين يذهب الدعم فعلياً؟ ولماذا لا يصل إلى المواطن في صورته الصحيحة؟ وهذا ما يفتح الباب أمام ضرورة إعادة هيكلة منظومة الدعم ومنع تسربه إلى خارج القنوات القانونية.

إنفاق وزارة المالية يتجاوز 25 مليار دينار

عند تحليل الإنفاق حسب القطاعات، تظهر وزارة المالية في الصدارة بإجمالي 25.3 مليار دينار، وهو إنفاق طبيعي بالنظر إلى مسؤوليات الوزارة الواسعة، لكنه يعكس أيضاً حجم الالتزامات الحكومية تجاه المرتبات والتحويلات المالية.

وزارة التربية والتعليم: 19.6 مليار دينار أغلبها لدعم الباب الرابع

والمفاجأة الكبرى تأتي من وزارة التربية والتعليم التي سجلت إنفاقاً ضخماً بلغ 19.6 مليار دينار، منها 18.9 مليار دينار في بند الدعم (الباب الرابع).

هذا الرقم يعادل تقريباً ثلث إجمالي ما أنفقته قطاعات الدولة مجتمعة لكنه يطرح سؤالاً حاداً: لماذا لم تنعكس هذه الميزانيات على البيئة التعليمية، بينما تشهد المدارس تهالكاً، وشحاً في التجهيزات، واكتظاظاً في الفصول؟

نفقات وزارة الدفاع تبلغ نحو 4 مليارات دينار

خصصت وزارة الدفاع 3.96 مليارات دينار تشمل رواتب وتسيير ونفقات تنموية، إضافة إلى مصروفات لباب الدعم. ورغم هذا الحجم، لا تزال المؤسسة العسكرية في حالة انقسام، ما يقلل من الجدوى الفعلية للصرف.

الداخلية: أكثر من 5 مليارات دون تحسن أمني واضح

وصل إنفاق وزارة الداخلية إلى 5.04 مليارات دينار، ورغم ذلك تعاني المدن من الانفلات، وتعدد التشكيلات، وازدواجية الصلاحيات وهو ما يعكس خللاً في إدارة الموارد وتوجيهها.

الإنفاق على البنية التحتية: تفاوت كبير بين الوزارات.. المواصلات والإسكان مليارات دون مشاريع على الأرض

وزارة المواصلات سجلت 2.35 مليار دينار، بينما صرفت وزارة الإسكان والتعمير 1.12 ملياراً، إضافة إلى 1 مليار دينار ضمن باب التنمية.

لكن هذه الأرقام لم تظهر على الأرض بمشاريع ملموسة، سواء فيما يتعلق الطرق أو إعادة إعمار المناطق المتضررة أو تطوير المرافق العامة.

الدعم الاجتماعي: أرقام كبيرة لأوضاع لم تتحسن

وزارة الشؤون الاجتماعية صرفت 14.94 مليار دينار، منها 6.43 مليارات ضمن باب الدعم ورغم ذلك لا تزال الفئات الهشة تشكو تأخر الدينارات المخصصة وعدم انتظامها، ما يعزز التساؤلات حول كفاءة إدارة الموارد وتوزيعها.

القطاعات الخدمية: مياه وبيئة وكهرباء

وزارة الموارد المائية سجلت إنفاقاً يناهز 1.09 مليار دينار، في حين بقيت أزمة انقطاع المياه بلا حلول جذرية كما أن الشركة العامة للكهرباء صرفت 3.58 مليارات دينار، بينما لا يزال المواطن يعاني من انقطاعات في مناطق عديدة.

اختزال الصورة: اقتصاد ريعي وإنفاق متضخم وشعب بلا خدمات

يبين البيان المالي أن الدولة تجمع عشرات المليارات من النفط، لكنها تُنفق معظمها على المرتبات والدعم والتحويلات المالية، بينما تبقى التنمية في المرتبة الأخيرة.

وبذلك يستمر المواطن في المعاناة اليومية مع سيولة نادرة وخدمات شبه غائبة، في ظل منظومة إنفاق تبدو منفصلة تماماً عن الواقع المعيشي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى