الجيش الوطني في قلب التساؤلات: هل يتحرّك لفرض الاستقرار في طرابلس؟
بين هدنة واهنة ودعوات برلمانية… القيادة العامة تحت مجهر الترقب

ليبيا 24
في زحمة الضجيج الذي يلف طرابلس، حيث المدافع لا تزال على أهبة الاستعداد، والهدن المتصدعة تتهاوى أمام أول رصاصة، عاد اسم القيادة العامة للجيش الوطني الليبي ليتردد كعامل توازن، في مشهد مضطرب يتأرجح بين واقع الانقسام ووهم الحلول المؤقتة.
البيان الأخير الصادر عن لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب الليبي أعاد تسليط الضوء على دور المؤسسة العسكرية، بعدما دعت اللجنة إلى “خروج كافة التشكيلات المسلحة من طرابلس وتسليم أسلحتها”، و”الالتفاف حول الجيش الوطني كضامن للاستقرار”. ورغم أن البيان لم يتضمن دعوة مباشرة إلى تحرك ميداني، إلا أن صيغته كانت كافية لتفتح أبواب الترقب والتحليل.
القيادة العامة… بين الصمت الاستراتيجي وترقب الداخل والخارج
في الوقت الذي تشتعل فيه التصريحات والتحليلات، تلتزم القيادة العامة الصمت، وهو صمت يحمله البعض على أنه حكمة، ويراه آخرون مقدمة لتحرك محسوب. في الكواليس السياسية، لا يغيب اسم المشير خليفة حفتر، القائد العام، عن التداول، كونه يمثل رأس المؤسسة العسكرية التي ينظر إليها كجهة منظمة وسط فوضى السلاح والتشكيلات المتصارعة.
ويرى مراقبون أن هذه الدعوات البرلمانية ليست منفصلة عن نبض الشارع، بل تعكس ما يتردد في الأحياء والميادين من رغبة في إنهاء مرحلة الفوضى، والعودة إلى دولة النظام والقانون.
طرابلس… مدينة تحكمها البنادق
التحشيدات المسلحة التي تشهدها طرابلس ليست جديدة، لكنها هذه المرة أكثر توترًا. الصراع المحتدم بين قوات رئيس الحكومة منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، وجهاز قوة الردع بقيادة عبد الرؤوف كارة، أفرز واقعًا خطيرًا على الأرض، باتت فيه العاصمة رهينة لحرب نفوذ داخلية.
بعيدًا عن العناوين السياسية، تُخنق طرابلس يوميًا ببنادق أبنائها. الميليشيات، التي كانت حليفًا ظرفيًا لبعض السلطات، باتت اليوم عبئًا يهدد وحدة البلاد ويضعف هيبة الدولة.
وهنا، يبرز السؤال المركزي:
أليس الجيش الوطني هو المؤسسة الوحيدة القادرة على إعادة ضبط المشهد؟
أليس الوقت قد حان لأن تُستبدل شرعية البندقية بشرعية المؤسسات؟
من ذاكرة 2019 إلى واقع 2025
الحملة التي قادتها القيادة العامة لتحرير العاصمة عام 2019 لا تزال حاضرة في ذاكرة الليبيين. حينها، كانت الغاية المعلنة “تطهير طرابلس من الجماعات الإرهابية”، وقد توقفت العمليات بعد تدخلات إقليمية ودولية أفضت إلى هدنة، ظلت متماسكة ظاهريًا، لكنها مهددة في كل لحظة.
لكن السنوات الماضية لم تمر دون تغيّرات:
• لم تنجح جهود توحيد المؤسسة العسكرية بشكل كامل.
• زاد تفكك الجبهة الغربية، وتعددت مراكز القرار والسلاح.
• وبات من الواضح أن قرار أي تحرك عسكري لا يُتخذ إلا بتوافقات إقليمية ودولية.
بيان البرلمان… ما بين التحذير والتلميح
يرى النائب طلال ميهوب، رئيس لجنة الدفاع، أن القوات المسلحة هي نواة الدولة، مؤكدًا أن “الحلول السياسية دون مؤسسة عسكرية فاعلة لا تؤدي إلا إلى تعميق الانقسام”.
أما زميله النائب علي الصول، فحرص على التوضيح بأن بيان اللجنة لا يعني نية لتحرك عسكري مباشر، بل هو “رسالة للبعثة الأممية والمجتمع الدولي بأن الوقت قد حان لإخراج الميليشيات ودمجها في مؤسسة نظامية”.
التصريحات المتباينة من داخل اللجنة نفسها تكشف عن صراع داخلي بين الحذر والتصعيد، وهو ما يزيد من أهمية الموقع الذي تقفه القيادة العامة، باعتبارها الطرف الوحيد الذي لا يتحدث كثيرًا، لكنه حين يتكلم، تُعاد صياغة المشهد.
المحيط الإقليمي والدولي… حدود القرار الليبي
أي مراقب للمشهد الليبي يدرك أن اتخاذ قرار ميداني واسع النطاق لا يتم بمعزل عن الأطراف الدولية. روسيا وتركيا ومصر وفرنسا جميعها لديها مصالح ووجود فعلي على الأرض، وتدير توازنات معقدة في شرق البلاد وغربها.
ويؤكد شريف بوفردة، مدير المركز الليبي للدراسات الأمنية، أن تكرار سيناريو 2019 يبدو مستبعدًا اليوم بسبب “تغير قواعد الاشتباك وتبدل موازين القوى”، لكنه لم يستبعد تحركًا غير تقليدي من جهة القيادة العامة، إذا ما تصاعدت التهديدات الأمنية، وتجاوز الصراع غرب البلاد الخطوط الحمراء.
قيادة تراقب… ولا تغفل
المحلل العسكري محمد الترهوني، المعروف بقربه من أوساط الجيش الوطني، قال إن القيادة العامة “تتابع المشهد بدقة”، نافياً أي تدخل ميداني حتى الآن، لكنه حذّر من أن التمزق السياسي وانفلات السلاح قد يدفع الجيش للتحرك إذا فشلت الأطراف الأخرى في إدارة الأزمة.
وأضاف: “بيان لجنة الدفاع ليس موقفًا سياسيًا فقط، بل لسان حال فئات واسعة من الشارع الطرابلسي، الذي يدرك أن لا سبيل لإنهاء الانقسام سوى عبر مؤسسة واحدة تمتلك الشرعية والانضباط”.
واقع السلطة المزدوجة… والقيادة الواحدة
تعاني ليبيا من ازدواجية في الحكم: حكومة في طرابلس لم تعد تحظى بإجماع وطني، وأخرى في شرق البلاد برئاسة الدكتور أسامة حماد، مدعومة من البرلمان والجيش الوطني.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه الحكومات بإعادة التموضع، تمضي القيادة العامة في بناء مؤسسات عسكرية وأمنية، قد تكون الأساس لأي دولة موحدة مستقبلًا.
الخاتمة: القيادة العامة… ميزان الاستقرار
في زمن تتكلم فيه البنادق قبل العقول، وتختلط فيه الولاءات بالسلاح، تبقى القيادة العامة للجيش الوطني حجر الزاوية الذي تراهن عليه قطاعات واسعة من الليبيين لإنقاذ ما تبقى من الحلم الوطني.
يبقى السؤال الكبير:
هل تتحرك القيادة العامة لإعادة فرض الاستقرار؟
الجواب ليس في البيانات، بل في نبض الشارع، وفي وعي المؤسسة العسكرية بأن ليبيا لا يمكن أن تُترك رهينة الفوضى إلى الأبد.
وحتى تتضح الرؤية، تظل القيادة العامة كما عهدها الليبيون صامتة حين يعلو الضجيج،وحاسمة حين تحين لحظة الحسم.



