خبراء: تحشيدات طرابلس استعراض قوة ومأزق أممي وعربي يهدد ليبيا
مسارات سياسية مشوهة وتأجيل للانتخابات حتى 2028 يعمقان الأزمة الليبية.

ليبيا على حافة الهاوية: استعراضات سلاح ومأزق سياسي دولي يعيق الحل
ليبيا 24
– تشهد طرابلس حالة من الترقب القلق، وسط تحشيدات عسكرية متبادلة تتخذ طابعاً استعراضياً، بينما تبدو العملية السياسية عاجزة تماماً عن احتواء الأزمة، في مشهد يعكس تعقيداً محلياً وإقليمياً ودولياً يهدد بدفع البلاد إلى جولة جديدة من العنف.
استعراض قوة في شوارع طرابلس.. وغياب لإرادة المواجهة
تشير المشاهد المتكررة في الآونة الأخيرة من تحرك للمدرعات وعربات مسلحة في شوارع طرابلس إلى حالة من الاستنفار، إلا أن المحللين يستبعدون تحولها إلى مواجهة شاملة في المدى القريب. يرى مراقبون أن هذه التحركات، المرتبطة بفصائل موالية لحكومة الدبيبة منتهية الولاية، هي في جوهرها “مسرحيات عسكرية” تهدف إلى تحسين مواقع التفاوض وفرض وقائع على الأرض، وليس الدخول في حرب مكلفة لا يضمن أي طرف نتيجتها.
وفي هذا الصدد، يؤكد محللون سياسيون أن كافة الأطراف تفتقر إلى الثقة في “سرعة الحسم” العسكري، وهو ما يجعلها تتردد في إشعال شرارة مواجهة قد تطول وتستنزف الجميع، مع توقع أن يدفع الطرف الذي يبدأ القتال ثمناً سياسياً كبيراً، داخلياً ودولياً.
السأم الشعبي والرفض المجتمعي.. عوائق أمام العسكرة
بعيداً عن حسابات القوى المسلحة، يبدو المشهد الاجتماعي في ليبيا متعباً ومشبعاً بثقافة رفض الحرب. لم تعد المدن الليبية، كما هو الحال في مصراتة، تنظر إلى الصراع من منظور عسكري بحت، بل أصبح “المزاج العام” عاملاً حاسماً قد يحبط أي محاولة لتصعيد القتال. لقد ولّدت سنوات من العنف والانقسام مناعة مجتمعية ضد الخطابات الحربية، حيث يطالب المواطنون بالاستقرار وتوفير الخدمات الأساسية بدلاً من إهدار الموارد في صراعات النخب.
هذا الرفض الشعبي يشكل حاجزاً غير مرئي لكنه قوي، يحد من قدرة المجموعات المسلحة على التصعيد المفتوح، ويجبرها على تبني خطاب سياسي زائف بينما تستمر في تعزيز نفوذها الاقتصادي والأمني خلف الكواليس.
المسار الأممي الغامض.. وخريطة طريق بلا آلية
على الجانب السياسي، تواجه البعثة الأممية المتحدة في ليبيا تحديات وجودية. تصريحات المبعوثة الأممية، السيدة هانا تيتيه، حول “خريطة طريق” جديدة لإنقاذ البلاد، قوبلت بتشكيك واسع من قبل الخبراء والمحللين، الذين يشيرون إلى غموض الآليات المقترحة وغياب الضمانات التنفيذية.
يكمن أحد أكبر التحديات في اعتماد الخطة الأممية على مؤسسات يعتبرها الكثيرون جزءاً من المشكلة وليس الحل، مثل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، واللذين فشلا على مدى أكثر من عقد في تحقيق أي اختراق سياسي حقيقي أو التوصل إلى اتفاق مستدام. هذا الإخفاق المزمن يطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى أي مسار سياسي يستند إلى هذه الأجسام المتصلبة.
الجامعة العربية.. قفزة في الفراغ ومحاولة لتغطية الفشل
في توقيت بالغ الحساسية، حاولت جامعة الدول العربية العودة إلى الواجهة في الملف الليبي، من خلال عقد اجتماعات وإصدار بيانات. غير أن هذه المحاولة وُصفت من قبل ناقدين بأنها “قفزة في الهواء”، تفتقر إلى الجدية والتأثير الحقيقي.
يشير المحللون إلى أن الجامعة العربية، التي فقدت وزنها السياسي والشعوي بشكل كبير داخل الإقليم، تبدو عاجزة عن التعاطي مع أزمات محورية مثل غزة والسودان، مما يدفعها إلى البحث عن ملفات أقل حرارة لتغطية إخفاقاتها. بيانها الأخير حول ليبيا لم يختلف عن سلسلة البيانات الإنشائية المتكررة التي تفتقر إلى آليات تنفيذية أو رؤية استراتيجية واضحة.
الحقيقة الجوهرية، كما يراها مراقبون، هي أن الدول الفاعلة حقاً في ليبيا هي دول مثل الإمارات وقطر ومصر وتركيا وروسيا، بينما تظل الجامعة العربية مجرد منصة هامشية لا تمتلك أدوات الضغط أو نفوذ التأثير اللازم لتحريك المياه الراكدة.
لجنة “6+6” والمماطلة.. انتخابات مؤجلة حتى 2028
أما على صعيد المسار الانتخابي، الذي يفترض أنه مخرج الأزمة، فإن الصورة تبدو قاتمة. كشفت تقارير عن اتصالات مع أعضاء في لجنة “6+6” التشريعية – التي تشكلت للاتفاق على قوانين الانتخابات – أفادت بأنه لا يوجد أفق لانتخابات رئاسية أو برلمانية قبل عامي 2027 أو 2028 على الأقل.
هذا التأجيل المتعمد ليس نابعاً من حرص على إجراء انتخابات نزيهة، بل هو جزء من استراتيجية مماطلة تتبعها النخب الحاكمة لتمديد أمد الأزمة وكسب الوقت، في انتظار تحولات إقليمية أو محلية جديدة يمكن استغلالها لتعزيز مواقعها. هذه المماطلة تكرس حالة اللاحل واللادولة التي تخدم مصالح شبكات المصالح الاقتصادية والمسلحة.
تحديات البعثة الأممية والحاجة إلى دعم حقيقي
تواجه البعثة الأممية معضلة حقيقية؛ فمن جهة، تحاول قيادتها الجديدة تصحيح المسار من خلال تعلم الدروس من إخفاقات الماضي، عبر السعي لفتح حوار شامل يضم ليس فقط السياسيين، ولكن أيضاً ممثلي المجتمع المدني والنساء والشباب والمثقفين، كما يتجلى في خطط المبعوثة تيتيه لزيارة بنغازي ومدن أخرى.
غير أن هذه الجهود تتعرض للتخريب المتعمد من قبل أطراف محلية لا تريد للعملية السياسية أن تنجح، لأن حالة اللااستقرار هي بيئتها الطبيعية التي تزدهر فيها. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر البعثة إلى الدعم الحقيقي والفعال من الأمم المتحدة، حيث لم تترجم التهديدات المتكررة بفرض عقوبات على المعرقليين إلى أفعال ملموسة، مما أفقدها عنصر الردع ومصداقيتها في نظر الكثير من الليبيين.
خريطة المصالح الخارجية.. العامل الحاسم
لا يمكن فهم تعقيد المشهد الليبي من دون النظر إلى تداخل المصالح الخارجية المتنافسة. أصبحت ليبيا ساحة لصراع بالوكالة، حيث تدعم دول مختلفة فصائل متعارضة لتحقيق مصالح جيوسياسية واقتصادية. هذا التدخل الخارجي، بكل أبعاده، منح الأطراف المحلية درعاً وحصانة، وجعل من قدرة الليبيين وحدهم على تقرير مصيرهم أمراً شبه مستحيل، حيث تمتلك هذه القوى الخارجية أدوات تأثير ونفوذ تفوق بكثير ما يمتلكه اللاعبون المحليون.
استنتاج: دوامة لا نهاية لها؟
الخلاصة المؤلمة هي أن ليبيا تدور في دوامة مفرغة: تحشيدات عسكرية تستعرض قوة لا تستخدم، مسارات سياسية مشوهة ومتعثرة، ومؤسسات دولية وإقليمية عاجزة. الشعب الليبي، المنقسم والمُنهك، يبدو رهينة في هذه المعادلة المعقدة.
الخروج من هذا النفق المظلم يتطلب جرأة غير مسبوقة من المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة، للتحول من مجرد إصدار البيانات إلى فرض إرادته عبر أدوات الضغط الحقيقية، وفي مقدمتها العقوبات المستهدفة والفعالة. كما يتطلب هبة شعبية وجماهيرية حازمة ترفض لعبة الانتظار والمماطلة. بدون ذلك، يبدو المستقبل القريب للبلاد مظلماً، يحمل في طياته خطر انهيار كامل أو عودة إلى العنف الشامل، وهو ثمن لن يدفعه سوى الشعب الليبي وحده.