طرابلس تحت النار: اغتيالات بالجملة وحرب الظل تعمق جراح ليبيا
صفعات غامضة بطرابلس.. حرب خفية على الاستخبارات والنفوذ

ليبيا 24
اغتيالات مستهدفة لضباط يملكون أسراراً خطيرة.. شارع يئن تحت وطأة الخوف والغموض
بين أزقة طرابلس التي أنهكها القتال، لا صوت يعلو فوق همسات الخوف ونظرات الشك، حديث الناس لم يعد عن أزمات الكهرباء والوقود، بل عن جثث تظهر وغيبوبة تلف مؤسسات الدولة، وعن ضباط أمن كانوا يوماً ما سنداً للأمان فتحولوا إلى أرقام في سجل اغتيالات غامضة.
في مقهى شعبي بمنطقة “سوق الثلاثاء”، يجلس سالم (45 عاماً)، وهو موظف حكومي، ممسكاً بفنجان قهوته وكامل قلقه: “اللي صار مع الرائد بالعروق والعميد القمودي والرياني، بيقولولك إنه مافيش أحد في مأمن الدولة غايبَة، والميليشيات هي اللي بتحكم إحنا عايشين في غابة، والقانون البندقية”، بهذه الكلمات الموجعة يلخص الرجل حالة اليأس التي يعيشها كثير من الليبيين.
هذه المشاهد اليومية هي الوجه الآخر لتقارير استخباراتية جافة تتحدث عن “حرب خفية” تستهدف العقل الأمني والعسكري الليبي، فبعد سنوات من الفوضى، أصبحت ليبيا ساحة لصراع وجودي لا تستخدم فيه المدرعات وحدها، بل أصبح الاغتيال والاختطاف أبرز أسلحته، في مشهد يكرس انهيار الدولة لصالح مليشيات متعددة وأجندات خارجية متشابكة.
الحدث المحوري: جثة في مستشفى تفضح واقعاً مريراً
قبل ثلاثة أشهر، وفي خضم اشتباكات عنيفة بين قوات تتبع حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية الولاية ومجموعة مسلحة كانت تتحصن به، عُثر على جثة داخل “مستشفى الخضراء” في حي أبو سليم.
لم تكن جثة أي شخص، بل كانت مفاجأة مروعة: إنه الضابط بجهاز الأمن الداخلي، محمد القمودي، الذي اختفى قسرياً قبل خمس سنوات. لم تعلن أي جهة رسمية بشكل واضح عن ملابسات العثور عليه، أو كيف انتهى به المطاف في مستشفى أصبح ساحة حرب، مما يطرح أسئلة أكبر من إجاباتها.
هذه الحادثة لم تكن سوى حلقة في سلسلة طويلة، ففي أبريل الماضي، أفادت تقارير إعلامية محلية بمقتل الضابط بجهاز الأمن الخارجي، الرائد سليمان بالعروق، في منطقة جنزور برصاص مسلحين مجهولين.
وتزامنت وفاته مع عملية اغتيال أخرى للعميد علي الرياني، ضابط هندسة الصواريخ، خلال عملية سطو مسلح على منزله، جميع هذه الحوادث تجمعها صفة واحدة: الغموض، وغياب البيان الرسمي الواضح، وعدم معرفة الفاعل.
تحليل استخباراتي: لماذا يستهدف الضباط؟ شبكات تهبار ومعلومات حساسة
يقول محللون أمنيون إن نمط الاستهداف يشير إلى عملية منهجية وليس أحداثاً عشوائية، الضباط المستهدفون، وفقاً لهذه القراءة، يمتلكون معلومات حساسة تشكل تهديداً لأطراف نافذة.
شبكات التهريب والجريمة المنظمة: يشير مصدر أمني مطلع إلى أن “شبكات تهريب البشر والأسلحة والمخدرات الممتدة على طول السواحل والحدود الليبية تنظر إلى أي جهاز أمني منظم على أنه العدو الأول لمصالحها الاقتصادية الضخمة”.
ويضيف المصدر لمراسل ليبيا 24: “هؤلاء الضباط قد يكونون على وشك كشف شبكات كبرى أو لديهم معلومات عن مسارات وتمويلات، فالإسكات أصبح الحل الأسهل في بيئة يغيب فيها القانون”.
الحرب على المعلومات والنفوذ: عملية الاستهداف هذه هي في جوهرها صراع على السيطرة على المجال الاستخباراتي. فمن يتحكم في المعلومات يتحكم في السلطة.
جهات متعددة، داخلية وخارجية، تسعى لتحييد أي مركز قوة استخباراتي مستقل قد يعرقل خططها لإعادة هندسة المشهد الليبي لصالحها.
تصفية حسابات الماضي: لا يمكن استبعاد أن بعض هذه الاغتيالات مرتبطة بملفات شائكة من عهد النظام السابق، كقضية إخفاء الإمام موسى الصدر أو تفجير لوكيربي، حيث قد يكون بعض الضباط المقتولين كانوا على علم بتفاصيل حساسة فيها.
الرأي العام: غضب عارم واتهامات بالتواطؤ
في الشارع الليبي، لا يقتصر الغضب على المجموعات المسلحة فقط، بل يتجه نحو حكومة الدبيبة التي يتهمها الكثيرون بالعجز إن لم يكن التواطؤ.
فاطمة (32 عاماً)، محامية من طرابلس، تقول بغضب: “حكومة الدبيبة تفتعل الأزمات وتتصارع على الكراسي بينما الشعب يدفع الثمن.
أين تحقيقاتهم في استشهاد هؤلاء الضباط؟ ألا يملكون أدنى قدرة على حماية من يجب أن يحمونا؟ وجودهم أصبح بلا معنى”، هذا الرأي يعكس إحساساً واسعاً بأن الطبقة السياسية الحاكمة في طرابلس منفصلة تماماً عن معاناة المواطن ومشاغله الأمنية الأساسية.
أما علي (50 عاماً)، تاجر من منطقة فشلوم، فيرى أن “الميليشيات هي من صنعت هذه الحكومة وتتحكم فيها، لذلك لن تحاسبهم على قتل ضباطنا. نحن أمام لعبة كبيرة، والليبي البسيط هو الوقود”.
هذه النظرة التشاؤمية تظهر مدى فقدان الثقة في المؤسسات الرسمية، والتي باتت تُنظر إليه كواجهة لنفوذ القوى المسلحة على الأرض.
المشهد الأوسع: فشل الدولة وتدخلات إقليمية
لا يمكن فهم هذه الحرب الخفية بمعزل عن الانقسام السياسي والأمني الحاد في ليبيا، وغياب دولة موحدة تمتلك احتكار السلاح، لقد خلقت حالة اللاستقرار بيئة خصبة لتغلغل المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة، حيث أصبحت ليبيا ساحة للوكالات بالنيابة.
كل طرف إقليمي يدعم فصيلاً محلياً لتحقيق مكاسب جيوسياسية، وغالباً ما تمر هذه الصراعات عبر عمليات الاغتيال والاستهداف كبديل عن المواجهة المباشرة المكلفة.
مستقبل مظلم في ظل غياب المساءلة
تحذيرات الخبراء، مثل وزير الداخلية الأسبق عاشور شوايل، من ازدياد وتيرة هذه الاغتيالات في ظل غياب آلية ردع فعالة وقضاء نزيه، تبدو واقعية بل ومتشائمة.
فطالما بقي القائمون على هذه الجرائم مجهولين بمنأى عن المحاسبة، وشعروا بأن أيديهم مطلقة، ستستمر حرب الظل هذه في اجتثاث ما تبقى من نواة لأجهزة أمنية وطنية.
الشارع الليبي، المحبط والغاضب، ينتظر من ينقذه من براثن هذه الحلقة المفرغة من العنف والعجز، لكن الأمل في إنقاذ قريب يبدو بعيداً مع استمرار تغليب مصالح الميليشيات والأجندات الخارجية على مصلحة الشعب الليبي وأمنه.