ليبيا على مفترق طرق اقتصادي حاسم: سحب العملة وضريبة الدولار يثيران جدلاً واسعاً
موجة عارمة من التساؤلات حول الرؤية الاقتصادية الشاملة وآثارها الاجتماعية
ليبيا 24:
في ظل تحولات اقتصادية بالغة الحساسية، تواجه ليبيا مرحلة دقيقة تختبر فيها متانة مؤسساتها النقدية وقدرتها على حماية المواطن من تبعات القرارات المالية المتلاحقة، حيث أثار قرار سحب فئتي العشرين والخمسة دينار، وفرض ضريبة على بيع العملة الأجنبية، موجة عارمة من التساؤلات حول الرؤية الاقتصادية الشاملة وآثارها الاجتماعية.
سحب العملة: مهلة غير كافية وتبعات مجتمعية واسعة
في خطوة اعتبرها مراقبون مفاجئة، أنهى مصرف ليبيا المركزي التعامل بورقتي العشرين والخمسة دينار مع مطلع أكتوبر، ضمن مهلة تنفيذ قصيرة أثارت انتقادات واسعة من خبراء الاقتصاد.
ويؤكد المحللون الماليون أن ضيق المهلة الممنوحة للمواطنين لاستبدال ما بحوزتهم من أوراق نقدية قد خلف أعباء إضافية على فئات مجتمعية عريضة، لاسيما صغار المدخرين وأبناء المناطق النائية الذين يعانون أصلاً من صعوبة الوصول إلى الخدمات المصرفية.
ويشير تقرير صادر عن مرصد الشؤون الاقتصادية الليبية إلى أن 42% من الأسر في المناطق الريفية لم تتمكن من استبدال كامل ما لديها من العملات الملغاة، بسبب بعد المسافات وندرة الفروع المصرفية، مما يعني خسائر مالية مباشرة لهذه الأسر في وقت تعاني فيه من ظروف معيشية صعبة.
دوافع السحب: بين مكافحة التزوير وتساؤلات غير مجابة
فيما برر المصرف المركزي قراره سحب الفئتين النقديتين بشبهات تزوير، إلا أن غياب أي إحصائيات رسمية عن حالات تزوير مسجلة ومؤكدة يثير علامات استفهام كبيرة حول الدوافع الحقيقية لهذا القرار.
ويرى مراقبون أن عملية السحب قد تكون جزءاً من خطة أوسع لإعادة هيكلة العملة الليبية، لكن تنفيذها جاء متسرعاً دون دراسة كافية للتبعات الاجتماعية والاقتصادية.
ويفيد مصدر مالي رفيع المستوى، فضل عدم الكشف عن هويته، أن تعدد جهات إصدار العملة الليبية بين شرق البلاد وغربها شكل أحد التحديات الرئيسية لإدارة العملة الوطنية، مما دفع المصرف المركزي إلى تبني سياسة توحيد الفئات النقدية والإشراف المباشر على عمليات طباعتها وتوزيعها.
ضريبة العملة الأجنبية: عبء جديد على كاهل المواطن
في سياق متصل، تشكل الضريبة المفروضة على بيع العملة الأجنبية والتي تبلغ 15%، إلى جانب عمولة مكاتب الصرافة البالغة 7%، عبئاً مالياً ثقيلاً على المواطن الليبي، حيث تسهم هذه الرسوم في رفع تكلفة المعاملات التجارية والاستيراد، مما ينعكس سلباً على الأسعار المحلية ويغذي موجة التضخم المستمرة منذ أشهر.
وتشير بيانات رسمية إلى أن قيمة الضريبة المحصلة من بيع العملة الأجنبية قد تجاوزت 800 مليون دينار منذ تطبيقها، إلا أن هذه الأموال لا تذهب إلى خزينة الدولة الموحدة، بل توزع وفق ترتيبات إدارية معقدة تثير الجدل حول آليات الصرف وشفافية توزيع الإيرادات.
السيطرة على سوق الصرف الموازي: معركة خاسرة؟
رغم الادعاءات الرسمية بأن فرض ضريبة على بيع العملة الأجنبية يهدف إلى الحد من ظاهرة السوق الموازي، تشير المعطيات الميدانية إلى أن هذه السياسة قد تكون قد حققت نتائج عكسية، حيث ارتفعت هوامش الشراء والبيع في التعاملات غير الرسمية بنسبة 23% خلال الربع الأخير من هذا العام.
ويوضح الخبير الاقتصادي د. محمد القاضي أن “الضريبة المرتفعة على تداول العملة دفعت الكثير من المتعاملين إلى اللجوء للسوق الموازي هرباً من الأعباء المالية، مما وسع من رقعة هذا السوق وزاد من تأثيراته السلبية على الاقتصاد الوطني”.
تعويم الدينار: بين الرغبة والواقع
في خضم هذه التحديات، تبرز دعوات متجددة من بعض الأوساط الاقتصادية إلى تعويم سعر صرف الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، كحل جذري لأزمة تعدد أسعار الصرف واختلالات سوق العملة، إلا أن غالبية الخبراء يحذرون من هذه الخطوة في الظرف الراهن، مؤكدين أن شروط النجاح غير متوفرة بعد.
وتحذر المديرة السابقة لدائرة السياسات النقدية بالمصرف المركزي، د. فاطمة الزوي، من أن “تعويم الدينار في ظل اقتصاد أحادي الجانب يعتمد على تصدير النفط بشكل شبه كامل، وفي غياب احتياطي نقدي كاف، سيكون بمثابة انتحار اقتصادي، وسيدفع ثمنه المواطن البسيط من خلال ارتفاع جنوني في الأسعار وانخفاض حاد في القوة الشرائية”.
إصلاح النظام المالي: ضرورة ملحة
يشكل الوضع الراهن فرصة تاريخية للمصرف المركزي الليبي لبدء إصلاحات هيكلية جذرية تبدأ باستكمال عملية جمع واستبدال العملة، وتنتهي بإعادة بناء الثقة في العملة الوطنية وتعزيز قدرة المؤسسة النقدية على إدارة السياسة النقدية بفعالية.
ويؤكد الخبير المالي الدولي د. عمران شاه أن “ليبيا بحاجة ماسة إلى خطة شاملة للإصلاح المالي تشمل تحديث أنظمة الدفع، وتعزيز الشمول المالي، وتبني تقنيات المصرفية الحديثة، وبناء احتياطيات استراتيجية من العملات الأجنبية، وإصلاح نظام تداول العملة بما يضمن شفافية وكفاءة عمليات الصرف”.
المواطن في قلب المعادلة
وسط هذه التحولات المعقدة، يبقى المواطن الليبي هو الحلقة الأضعف في المعادلة الاقتصادية، حيث تزداد أعباؤه المعيشية يوماً بعد يوم، في وقت لا تزال فيه الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبنية تحتية تعاني من إهمال متراكم على مدى سنوات.
وتطالب منظمات المجتمع المدني بتبني سياسات اقتصادية تراعي البعد الاجتماعي، وتضمن حماية الفئات الهشة من تبعات القرارات التقشفية، مع التأكيد على ضرورة مشاركة أوسع للخبراء والمتخصصين في صياغة السياسات النقدية والمالية.
آفاق المستقبل
رغم كل التحديات، يرى مراقبون إيجابيون أن الأزمة الحالية قد تشكل منعطفاً إيجابياً في مسيرة الإصلاح الاقتصادي في ليبيا، إذا ما أحسنت السلطات النقدية التعاطي مع الملفات الشائكة، وتبنت رؤية شاملة تقوم على الشفافية والمشاركة الواسعة والاهتمام الحقيقي بمعاناة المواطن الليبي.
وفي الوقت الذي تستعد فيه ليبيا لمرحلة جديدة من إعادة الإعمار والتنمية، تبرز الحاجة الماسة إلى سياسات نقدية ومالية رشيدة تستطيع تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز النمو المستدام، بما يخدم مصلحة البلاد والمواطن في آن معاً.



