
ليبيا 24 / عبدالعزيز الزقم
مسار الحل في ليبيا يراوح مكانه رغم وعود الأمم المتحدة.
استمرار النفق المظلم
ما تزال الأراضي الليبية تغرق في دوامة من عدم الاستقرار والغموض السياسي، حيث تتهاوى آمال المواطن في إيجاد مخرج من الأزمة التي أنهكت البلاد لسنوات طوال. وتتصاعد مؤشرات اليأس مع فشل المسارات الدولية المتعاقبة في تحقيق أي تقدم ملموس نحو تسوية سياسية تنهي حالة الانقسام وتعيد بناء مؤسسات الدولة. في هذا المشهد المعقد، تطفو على السطح تساؤلات مصيرية حول جدوى الجهود الأممية، وحول الإرادة الحقيقية للأطراف المحلية والدولية الفاعلة لدفع البلاد نحو بر الأمان.
عجز أممي تاريخي وإستراتيجية جديدة تواجه واقعاً معقداً
تواجه البعثة الأممية في ليبيا، تحت قيادة المبعوثة هانا تيتيه، اختباراً صعباً لإثبات مصداقيتها وفعاليتها. وقد أحاطت تيتيه مجلس الأمن الدولي مؤخراً بما وصفته بـ”خارطة طريق” جديدة، حددت لها مهلة زمنية لا تتجاوز الشهرين لتحقيق إنجازات ملموسة. غير أن هذه الخارطة، بحسب مراقبين، تكرر نمطاً سائداً في أداء البعثة يقوم على الوعود والمدد الزمنية القصيرة التي تنتهي دون تحقيق النتائج المرجوة، مما يغذي الشكوك حول قدرة البعثة على تجاوز إرث الفشل الذي لازم مبعوثيها السابقين.
وتعترف تيتيه صراحة بعجز البعثة عن “فرض حل سياسي”، مستندة في ذلك إلى أن التفويض الممنوح لها بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة يتركز على ملف نزع السلاح، ولا يمتد إلى الإكراه على قبول صيغ سياسية. هذا الاعتراف يضع المسؤولية الأساسية على عاتق الأطراف الليبية نفسها، في وقت يبدو فيه المشهد السياسي أكثر انقساماً وتعقيداً من أي وقت مضى.
مجلس النواب وإرادة التوافق.. ومجلس الدولة وإستراتيجية التعطيل
يبدو المشهد السياسي الليبي منقسماً بين قطبين رئيسيين: مجلس النواب المنعقد في شرق البلاد، والمجلس الأعلى للدولة الذي يتمركز في العاصمة طرابلس. وتشير تحليلات إلى وجود “جدية” من قبل مجلس النواب للانخراط في مسار الحل والوصول إلى تسويات سياسية، حيث أقر المجلس القوانين الانتخابية وأبدى استعداده للحوار. غير أن هذه الإرادة تصطدم، بحسب مراقبين، بموقف “معطل” من قبل بعض الأطراف الفاعلة داخل المجلس الأعلى للدولة، والتي تتحالف مع مصالح فئات مستفيدة من استمرار الأزمة.
ويتم اتهام رئيس الحكومة منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، بدعم وتعزيز هذا الموقف التعطيلي، حيث أن إجراء الانتخابات يعني نهاية فترة ولايته وتهديداً للنفوذ الواسع الذي تمتلكه مجموعته في غرب ليبيا. وقد اتهمه محللون بالعمل على إطالة أمد الأزمة من خلال استغلال الإحاطات الأممية لخدمة مصالحه، والضغط على بعض أعضاء المجلس الأعلى للدولة عبر وسائل مالية للتأثير على القرارات الداخلية بما يضمن بقاءه في السلطة.
الفوضى المنظمة.. قوى الظل المستفيدة من استمرار الأزمة
خلف واجهة المؤسسات السياسية الرسمية، تتحكم قوى غير رسمية في مفاصل كثيرة من المشهد الليبي. وتوصف هذه القوى بأنها “مجموعات مستفيدة” من استمرار حالة الفوضى وانهيار الدولة، حيث تمارس نهباً منظماً للمال العام وتسيطر على موارد البلاد عبر شبكات فساد معقدة. ويُشار إلى أن بعض هذه المجموعات ذات طابع شبه عسكري، وتتمتع بنفوذ أمني وسلطوي كبير في طرابلس ومناطق الغرب.
وقد خلقت هذه القوى حالة من “الفوضى المتحكم فيها”، تمكنها من عرقلة أي مسار سياسي قد يهدد مصالحها. ويعزو محللون انهيار الأمن في طرابلس، بما في ذلك حوادث السطو المسلح في وضح النهار، إلى سيطرة هذه المجموعات وتواطؤ الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة منتهية الولاية. كما يتم اتهام الحكومة باستخدام القوة المسلحة والميليشيات الموالية لها لقمع أي احتجاجات شعبية تطالب بإجراء الانتخابات أو تغيير الحكومة.
المبعوث الأممي ومسار موازٍ.. براغماتية واشنطن في مواجهة بيروقراطية الأمم المتحدة
بالتوازي مع المسار الأممي الرسمي، تبروز جهود دبلوماسية أخرى تقودها واشنطن عبر المبعوث الرئاسي مسعد بولس. ويوصف هذا المسار بأنه أكثر “براغماتية وواقعية”، حيث يركز على مخاطبة مراكز القوة الفعلية على الأرض، بعيداً عن الشكليات السياسية والأجسام التي فقدت شرعيتها وشعبيتها. وقد عقد بولس سلسلة من اللقاءات المباشرة مع أطراف مؤثرة في شرق وغرب ليبيا، مركزاً على ملفات جوهرية مثل حل الميليشيات في طرابلس.
هذا المسار الموازي يسلط الضوء على إشكالية أساسية في منهج البعثة الأممية، والتي يتهمها محللون بالانشغال بالشكليات وإشراك أطراف لا تملك تأثيراً حقيقياً، مما يحولها إلى “شريك في الأزمة” بدلاً من أن تكون وسيطاً نزيهاً. وتكمن البراغماتية الأمريكية في التعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يجب أن يكون، وهو ما قد يفتح أفقاً للحلول العملية بعيداً عن المداولات البيروقراطية الطويلة.
خارطة الطريق إلى المجهول.. مخاوف من انتقالي ممتد حتى 2031
أثارت التفاصيل المطروحة في خارطة طريق البعثة الأممية مخاوف محللين من أن تؤدي إلى “تمديد المرحلة الانتقالية حتى عام 2031″، في سيناريو وصف بـ”الكارثة الكبرى”. وتنص الخطة على مرحلة انتقالية أولى تمتد لأربع سنوات، تليها مرحلة أخرى مدتها 18 شهراً، مما يعني بقاء ليبيا في حالة من عدم اليقين لسنوات طويلة قادمة.
هذا الطرح يظهر “خللاً هيكلياً” في الرؤية الأممية، وفقاً لمراقبين، حيث يعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلها، ويوفر غطاءً لاستمرار الأجسام السياسية الحالية دون مساءلة. كما أن التركيز على إعادة هيكلة المفوضية العليا للانتخابات يُنظر إليه على أنه محاولة لتحميلها مسؤولية التعطيل، وكسب للوقت في ظل انشغال القوى السياسية بمعارك جانبية، بينما يتم تجنب معالجة الجذور الحقيقية للأزمة المتمثلة في انعدام الإرادة السياسية وتوازنات القوى على الأرض.
الشارع الليبي.. الضحية الأولى والأخيرة
في خضم هذه الصراعات السياسية والأجندات الدولية، يبقى المواطن الليبي هو الحلقة الأضعف والأكثر معاناة. فإلى جانب انعدام الأمن وانتشار السلاح، يعاني الليبيون من أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة. وتواصل حكومة طرابلس اتهاماتها بمنع صرف مرتبات موظفي الشركات المتعثرة في مناطق الشرق لسنوات، واستخدام المال العام لتمكين شبكات الفساد وتمويل الميليشيات.
هذه المعاناة اليومية تزيد من الإحباط الشعبي، ولكنها في الوقت نفسه تذكي الحراك المطالب بإجراء الانتخابات كسبيل وحيد لاستعادة الدولة واستقرارها. وقد عبرت الاحتجاجات الشعبية المتفرقة عن رفض المواطن للوضع القائم، لكنها ووجهت بقمع عنيف من قبل قوات موالية للحكومة، مما يؤكد أن القوى المستفيدة من الفوضى لن تتخلى عن امتيازاتها بسهولة.
أوراق الضغط الممكنة ومستقبل غامض
رغم قتامة المشهد، فإن أوراق ضغط عديدة لا تزال متاحة أمام المجتمع الدولي لدفع الأطراف المتنازعة نحو حل سياسي. يمكن للبعثة الأممية، بدعم حقيقي من مجلس الأمن، استخدام أدوات مثل فرض عقوبات مستهدفة على الشخصيات والمجموعات المعطلة، خاصة تلك المتورطة في انتهاكات اقتصادية وأمنية. كما أن تمكين القوات المسلحة من السيطرة على العاصمة والحدود يشكل عاملاً حاسماً لخلق بيئة آمنة لإجراء الانتخابات.
مستقبل ليبيا يرتهن لتحقيق معادلة صعبة: توفر إرادة سياسية حقيقية لدى النخب المحلية، وضغط دولي فعال ومستمر، وأولوية واضحة لمصلحة الشعب الليبي فوق كل الاعتبارات. دون ذلك، ستظل البلاد أسيرة نفق مظلم، تتربص بها قوى الداخل والخارج، بينما يدفع المواطن الثمن من دمه وعرقه ومستقبل أجياله.