
شهد الملف الليبي مؤخرًا تحركات أمريكية متزايدة، تعكس تحولًا ملحوظًا في الاهتمام الدولي، خاصة من جانب الولايات المتحدة، التي ظلت خلال السنوات الماضية تضع الأزمة الليبية في مرتبة متأخرة ضمن أولوياتها السياسية.
وفي ظل تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، تعود واشنطن اليوم إلى الانخراط بفاعلية أكبر في الشأن الليبي، وهو ما تؤكده سلسلة من الزيارات واللقاءات رفيعة المستوى وتصريحات المسؤولين والخبراء.
تطور العلاقة الليبية الأمريكية
يرى الدبلوماسي الليبي السابق، عثمان البدري، أن العلاقات الليبية الأمريكية “تاريخية وممتدة”، لكنها لطالما شهدت فترات من التراجع والفتور، خاصة خلال إدارة الرئيس جو بايدن، التي انشغلت بملفات دولية أخرى مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والتصعيد في الشرق الأوسط، والمواجهة المتصاعدة مع الصين وإيران.
ومع ذلك، يشير البدري إلى أن المرحلة الحالية تشهد “عودة تدريجية للاهتمام الأمريكي بالملف الليبي”، مدفوعًا بعدة اعتبارات استراتيجية، أبرزها تقليص النفوذ الروسي، وحماية المصالح الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة في شمال إفريقيا.
الدور الأمريكي في دعم المسار السياسي
أوضح البدري في تصريحات صحفية رصدها ليبــيا 24 أن واشنطن لعبت دورًا غير معلن في دعم خريطة الطريق التي أطلقتها البعثة الأممية، مؤكدًا أن “البعثة لم تطلق هذه الخريطة إلا بعد التشاور مع الولايات المتحدة”، وهو ما يعكس حجم التنسيق القائم بين واشنطن والأمم المتحدة في رسم معالم المرحلة الانتقالية في ليبيا.
ويبدو أن السياسة الأمريكية تسعى في هذا الإطار إلى فرض توازن سياسي يضمن استقرار البلاد ويُبقيها ضمن دائرة النفوذ الغربي بعيدًا عن التغلغل الروسي أو التركي المفرط.
البعد الأمني والعسكري – أولوية في التحركات الأمريكية
من أبرز محاور التحرك الأمريكي، البعد الأمني، خاصة من خلال تفعيل دور القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، التي تسعى إلى منع الجماعات الإرهابية من إعادة التمركز في شمال إفريقيا، مستغلة هشاشة الوضع السياسي في ليبيا.
وأشار البدري إلى أن “الوجود العسكري الأمريكي ليس فقط لمكافحة الإرهاب، بل هو أداة استراتيجية للبقاء في المنطقة ومراقبة تحركات القوى الإقليمية الأخرى”، وهو ما يعكس الطابع المركب للسياسة الأمريكية في ليبيا، التي تجمع بين الأمني والسياسي.
الأبعاد الاقتصادية – النفط والأصول المجمدة
من جانبه، يرى المحلل السياسي الليبي حسام الفنيش أن التحركات الأمريكية الأخيرة تتجاوز الطابع الدبلوماسي التقليدي، وتمثل جزءًا من استراتيجية متكاملة لإعادة رسم النفوذ الأمريكي في ليبيا، مع تركيز واضح على الجوانب الاقتصادية، وفي مقدمتها ملف النفط والأصول الليبية المجمدة.
ووفق الفنيش، فإن هذه الأصول – التي تصل إلى نحو 70 مليار دولار في الولايات المتحدة – تمثل عنصرًا استراتيجيًا في يد واشنطن، تسعى من خلاله إلى التأثير على مراكز القوى الليبية وضبط موازين التفاوض بين الشرق والغرب.
كما أشار إلى أن ضمان استقرار تدفق النفط الليبي يُعد أولوية أمريكية، بالنظر إلى الحاجة العالمية المتزايدة للطاقة في ظل الأزمات الدولية المتلاحقة.
النفوذ غير التقليدي وتوسيع دائرة التأثير
يشير الفنيش أيضًا إلى أن واشنطن تستخدم أدوات غير تقليدية لبسط نفوذها داخل ليبيا، من خلال شبكات التأثير الرسمية وغير الرسمية، التي تجمع بين الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية والعلاقات العائلية، ما يمنحها قدرة أكبر على المناورة والتأثير في تطورات المشهد الليبي.
ويرى أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى داخل طرابلس، وربط الشرق بالغرب عبر تسويات اقتصادية وتجارية، يتم تمريرها تحت مظلة أمريكية مباشرة أو غير مباشرة.
ليبيا تعود إلى دائرة الاهتمام الأمريكي
تعكس التحركات الأمريكية الأخيرة اتجاهًا واضحًا نحو إعادة إدماج ليبيا ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، بعد سنوات من التردد. وبينما تسعى واشنطن إلى تقليص نفوذ الخصوم (خاصة روسيا)، فإنها في المقابل تعمل على تعزيز حضورها عبر أدوات سياسية وأمنية واقتصادية معقدة.