
منذ اندلاع ثورة 17 فبراير، عاش الليبيون كل أشكال المعاناة: انقسام داخلي، اقتتال مسلح، تدخلات أجنبية، وانتشار السلاح خارج إطار الدولة. تحوّلت الثورة من فرصة لبناء ليبيا الحديثة إلى أزمة مستدامة، بعد أن أُجهض حلم الدولة، وحلّ محله صراع على النفوذ بين أطراف داخلية وخارجية.
فوضى السلاح… وغياب الدولة
كان من المفترض أن تكون ثورة فبراير مشروعًا وطنيًا جامعًا يُحتكم فيه إلى العقل والحكمة، لكن الواقع ذهب في اتجاه آخر. فقد استغل البعض الفوضى لاحتكار السلاح وفرض سلطته بقوة الذراع، رافضًا قرارات المجلس التنفيذي، وعلى رأسها حل التشكيلات المسلحة. وفي ظل غياب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وجدت هذه الجماعات فرصتها للتمدد، وفرض نفسها كـ”أوصياء” على الثورة.
الثورة بين الحماية والاختطاف
ضحّى أبناء الثورة بأرواحهم من أجل التغيير، وكان الأجدر أن يستمروا في حماية ما صنعوه، لا أن يتركوه فريسة لأجندات ضيقة. غير أن قادة المرحلة تخلّوا عن المشهد بسرعة، تاركين الساحة لأطراف تفتقد الرؤية، فاستُغلّت الشعارات لتبرير التسلط، وانحرف المسار عن أهدافه الحقيقية.
التدخلات الخارجية… وتضارب المصالح
لم يكن التدخل الأجنبي دعمًا للديمقراطية، بل لحماية مصالح تلك الدول. تحركت قوى دولية وإقليمية – من قطر والإمارات إلى تركيا ومصر – كلٌ وفق حساباته، بينما بقي الليبيون عاجزين عن إدارة هذه التوازنات. فغابت عنهم الخبرة السياسية، وأُهدرت اللحظة التاريخية لإعادة بناء الدولة.
محطة الانتخابات… فرصة ضائعة
شكّلت انتخابات 7 يوليو 2012 فرصة ذهبية للانتقال نحو الديمقراطية، لكنها ضاعت بسبب تدخلات أطراف بعينها. وتكررت المأساة في انتخابات 2014 التي أفضت إلى صراع “فجر ليبيا” الدموي، ما أدى إلى مزيد من التشرذم والانقسام. ظلت الحكومات تتبدل، والأزمات تتراكم، فيما اكتفى المجتمع الدولي بإدارة الأزمة عبر مبعوثين ومؤتمرات لم تُنتج تغييرًا حقيقيًا.
الجيش والدولة… والفرق بين النموذجين
نجح الجيش الوطني في شرق البلاد في دحر الإرهاب وتقديم نموذج لسلطة الدولة، في حين بقيت مناطق الغرب تحت سطوة تشكيلات مسلحة تتقاسم النفوذ بلا رادع. وعلى الرغم من توقيع اتفاق اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لحل هذه التشكيلات، لم تُنفذ الحكومة المعنية الاتفاق، بل شرعنت وجود هذه التشكيلات عبر الميزانيات والدعم السياسي.
طرابلس تنتفض… وكسر حاجز السلبية
شهدت العاصمة طرابلس مؤخرًا مظاهرات شعبية واسعة من مختلف المدن الغربية، في تطور نوعي كسر حاجز الصمت. عبّر المواطنون عن رفضهم لاستمرار الحكومة الحالية، مطالبين بانتخابات تنهي المرحلة الانتقالية وتعيد المسار السياسي إلى سكّته. كانت رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي: الليبيون يريدون التغيير الحقيقي.
صحوة شعبية… وإرادة وطنية جديدة
يمكن القول إن هذا الحراك الشعبي أعاد رسم ملامح المشهد السياسي. فقد أظهر رغبة الليبيين في إنهاء الأجسام السياسية الحالية والذهاب نحو حل سياسي شامل يتضمن إجراء انتخابات، وإقرار الدستور، وتفعيل مقترحات اللجنة الاستشارية. في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى رؤية وطنية جديدة تُعطي دورًا فعّالًا للأحزاب السياسية والقوى الوطنية، وتُعيد الاعتبار إلى العمل السياسي المدني.
بين الدولة والفوضى… أي طريق يختار الليبيون؟
اليوم، ومع هذا الوعي الشعبي المتصاعد، يبدو أن الليبيين استعادوا زمام المبادرة. فهم يدركون أن بناء الدولة يتطلب توحيد المؤسسات، وسحب السلاح من التشكيلات غير النظامية، وإعادة الاعتبار لسلطة القانون. المعادلة باتت واضحة: إما الاستمرار في الفوضى، أو الشروع في مشروع وطني حقيقي تُبنى فيه المؤسسات، وتُحترم فيه الإرادة الشعبية. وإن دلّ الحراك الأخير على شيء، فإنما يدل على أن الليبيين كسروا حاجز السلبية، واستعادوا قناعتهم بأن التغيير يبدأ من الداخل، لا بانتظار حلول الخارج.
وهنا يبرز سؤال محوري: بعد أربعة عشر عامًا من الفوضى والفساد والانهيار الاقتصادي، هل تحققت فعلاً أهداف الثورة؟ أم أن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد؟ ما حدث في 2011 كان فرصة ضائعة، اختطفتها مصالح وأجندات، وأقصت غالبية الليبيين عن المشاركة الفعلية في صنع المستقبل. لقد آن أوان تصحيح المسار، لا عبر العنف أو الفوضى، بل بثورة من نوع آخر: ثورة وعي، وبناء، ومصالحة وطنية حقيقية تعيد للدولة معناها، وللمواطن كرامته، ولليبيا مكانتها.
وعلى الليبيين أن يستمروا في صحوتهم، بعدما كسروا حاجز السلبية والاتكالية، وأدركوا أن الخلاص لن يأتي من الخارج بل من وحدة صفهم الداخلي. لقد تصالحوا – ولو ضمنيًا – حين نزلوا إلى الشارع بمطالب واحدة، متحدين جميعًا من أجل إنهاء المراحل الانتقالية التي أرهقت البلاد. وقد وصلت رسالتهم بوضوح إلى المجتمع الدولي، الذي طالما انتظر تحركًا شعبيًا ليبني عليه موقفًا حازمًا.
كما أن التفاف القوى السياسية الوطنية حول هذا الحراك عزز من زخمه، فقد أصدرت العديد من الأحزاب الوطنية بيانات تدعم مطالب الشارع، وتطالب بإنهاء الأجسام السياسية الحالية. ولعل أبرز هذه المواقف كان إعلان دعم 67 حزبًا سياسيًا للمظاهرات التي شهدتها العاصمة طرابلس، وتأكيدهم على شرعية مطالب المتظاهرين وحقهم في الاحتجاج السلمي بحرية تامة.



