
في تصريح حمل الكثير من الدلالات، رسم المرشح الرئاسي السابق سليمان البيوضي صورة متباينة للمشهد الليبي، بين شرق وجنوب يسيران نحو الاستقرار والتنمية، وغرب يعيش أزمات متفاقمة عنوانها الفوضى والانهيار الأمني والمؤسسي.
حمل التصريح رؤية تحليلية لما وصفه البيوضي بعهد جديد يتشكل بهدوء في مناطق سيطرة مجلس النواب والحكومة الليبية، حيث تنشط أدوات التنمية ممثلة في صندوق التنمية والجهاز الوطني للتنمية، وتُخلق فرص العمل، وتتحرك مشاريع الإعمار دون ضجيج أو شعارات رنانة. هذه الإنجازات، كما يراها، ما كانت لتتحقق لولا وجود “الدرع والسيف”، في إشارة إلى القيادة العامة التي وفّرت بيئة أمنية فرضت الاستقرار وجعلت البناء ممكنًا.
في المقابل، لا يخفي البيوضي نقده الشديد للوضع في مناطق الغرب الليبي، حيث يرى أن الشعارات المرفوعة، وعلى رأسها الحفاظ على قيم ومبادئ فبراير، لم تعد تعكس الواقع الفعلي. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يصف ما يجري بأنه قمع واضطهاد للخصوم والمعارضين، واعتقالات تعسفية، وممارسات تُرتكب باسم الثورة، بينما تنهار الخدمات وتتراجع مؤشرات الحياة الكريمة. في هذا السياق، يرى البيوضي أن فبراير تعرّضت للتشويه من قبل من تصدّروا المشهد باسمها، لكنهم يمارسون سلوكيات لا تختلف عن تلك التي ثار الشعب الليبي ضدها في 2011.
ما يزيد من خطورة المشهد، بحسب ما ورد في التصريح، هو ظهور مقطع مصوّر يُظهر خطابًا علنيًا يحمل مضامين تكفيرية، يُعيد إلى الأذهان البيان 19 الذي صدر في وقت سابق، وكان سابقة خطيرة في ليبيا، حيث تم تكفير الدولة في مؤتمر صحفي مباشر. يشير البيوضي إلى أن هذا الخطاب المتداول ليس مجرد حدث معزول، بل ينذر بوجود خلايا نائمة أو نشطة داخل المجتمع، تمارس التقيّة، وتملك على ما يبدو غطاءً سياسياً أو أمنياً ضمنيًا، يجعلها تتحرك بلا خوف من المساءلة أو العقاب.
الخطاب التكفيري، كما يراه البيوضي، يعيد تقسيم المجتمع الليبي إلى “فسطاطين” على نهج خطير: فسطاط الجنة وفسطاط النار، وهو نمط من الخطاب يُهدد بتمزيق ما تبقى من النسيج الاجتماعي، ويعيد البلاد إلى المربع الأول من الانقسام والاحتراب. ومما يثير القلق أكثر أن هذا الخطاب يجد طريقه للعلن في ظل حالة من الصمت أو التواطؤ، أو ربما العجز، عن مواجهة الفكر المتطرف وملاحقة من يروج له.
مخاطر واضحة، ومتعددة الأبعاد.
من هنا، تبدو المخاطر واضحة، ومتعددة الأبعاد. على الصعيد الأمني، يُنذر تنامي هذا الخطاب بخلق بيئة خصبة للعنف السياسي والديني، خاصة في ظل استمرار نشاط الميليشيات وتراجع سلطة الدولة في بعض المناطق. أما سياسيًا، فإن التباعد بين سلطات الشرق والغرب يعمّق الانقسام، ويجعل فكرة التوحيد الوطني أكثر صعوبة. وعلى المستوى المجتمعي، فإن خطاب الفسطاطين يهدد وحدة المجتمع ويغذي التطرّف، في وقت يعاني فيه المواطن الليبي من فقدان الخدمات، وتردّي الأوضاع المعيشية، وتضييق مستمر على الحريات العامة.
نجاح مشاريع التنمية في الشرق والجنوب يظهر أن الاستقرار ممكن
لكن رغم هذا المشهد القاتم، لا تزال هناك فرص يمكن البناء عليها. فنجاح مشاريع التنمية في الشرق والجنوب، يُظهر أن الاستقرار ممكن، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وتم تعزيز المؤسسات الوطنية الفاعلة. غير أن التعامل مع الخطر الداهم لا يحتمل التأجيل، بل يتطلب تحركًا عاجلاً في عدة اتجاهات متوازية، تبدأ بالتحقيق في الخطابات التكفيرية المتداولة، وتحديد الجهات المسؤولة عن نشرها، ومساءلتها قانونيًا وإعلاميًا.
كذلك، من الضروري أن يصدر موقف رسمي واضح يُدين هذه الخطابات، ويؤكد على رفض الدولة لأي شكل من أشكال التكفير أو التهديد بالسلاح أو الإقصاء السياسي والديني، مع اتخاذ خطوات عملية لحماية النشطاء والمعارضين الذين يتعرضون للتضييق أو الملاحقة في الغرب الليبي. إن فتح قنوات آمنة للإبلاغ عن الانتهاكات، وتوفير الحماية القانونية للضحايا، يمثلان أولى الخطوات نحو استعادة الثقة في الدولة والقانون.
ملف الجماعات المسلحة بين إعادة الدمج أو التفكيك
وفي المدى المتوسط، لا يمكن تجاوز ملف الجماعات المسلحة دون خطة وطنية لإعادة الدمج أو التفكيك، مع برامج تأهيل حقيقية، تضمن عدم عودة عناصرها إلى العنف أو استغلال الثغرات الأمنية. إلى جانب ذلك، يجب إطلاق حملة وطنية لمواجهة الفكر المتطرف، لا تقتصر على البعد الأمني، بل تشمل التعليم، والإعلام، وخطاب ديني وسطي، بالتعاون مع القوى المجتمعية والقبلية والدينية المعتدلة.
أما في المدى الأبعد، فإن الحل الجذري يمر عبر مسار شامل للمصالحة الوطنية، يقوم على العدالة الانتقالية، واعتراف الأطراف بجرائم الماضي، ويضمن محاسبة المتورطين في الانتهاكات، ضمن إطار قانوني شفاف. ولا يمكن لهذا المسار أن ينجح دون مؤسسات قوية موحدة، تنهي الانقسام العسكري والسياسي، وتؤسس لدولة القانون والمؤسسات، وتضمن التنمية المتوازنة في كافة أرجاء ليبيا.
في الختام، فإن تصريحات سليمان البيوضي تفتح الباب لنقاش أعمق حول المسار الذي تتخذه البلاد، وحول مسؤولية الفاعلين السياسيين في شرق البلاد وغربها، في وقف التدهور، وتحمل مسؤولياتهم تجاه المواطن الليبي الذي بات أسيرًا للصراع، ومستقبل تُهدده الخطابات التكفيرية، والميليشيات المسلحة، والانقسام السياسي المزمن. لا بد من وقفة حازمة، تبدأ بتشخيص صادق للواقع، وتنتهي بإرادة وطنية صادقة تنتصر لليبيا، قبل أن ينتصر أحد على الآخر.



